"كُنتم خيرَ أمَّة" (5)

عمَّار الغزالي

حَكَى قُرآنُنَا العظيمُ عن نبيِّ اللهِ مُوْسَى -عليه السلام- أنَّه لما وصل مَدْيَن، وَجَد زِحَامًا لأناسٍ على بِئر يسقون منها، وإلى جانب الجَمْعِ فتاتان تنتظران حتى ينتهي الزحام فتسقيا؛ فتطوَّع الكليمُ وسقى لهما؛ ولما عادت الفتاتان، أخبرتا أباهما بما فعله الغريب، فأرسل إحداهما تدعوه لمقابلته؛ حتى يكافئه صنيعه؛ فلما حضر موسى استضافه وأكرمه وأمَّنه بعدما سمع عنه فراره من فرعون، وعرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه، على أن يعمل لديه ثمانية أعوام، وإن شاء أكملها عشرة، فوافق موسى، وقضى الأعوام العشرة، فأوفى بوَعْدِه على خَيْر وَجْه.. القصة شهيرة، ويكاد يحفظها الجميع، إلا أن ما أودُ الإشارة إليه قوله تعالى على لسان والد الفتاتين: "ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك أيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتَ فَلَا عُدْوَانَ عَليّ"، وحكاية عن موسى: "فَلَمَّا قَضَى مُوْسَى الأجَلَ وَسَارَ بأَهْلِهِ".

المَوْضِعَان المذكوران عاليه، يُوافقهما في شريعتنا الغرَّاء قول نبينا الكريم: "المسلمون على شروطهم"، وهي قاعدة أصيلة تطابقتْ آراءُ الفقهاء على الأخذ بها في مقام استنباطهم للأحكام الشرعية.. ومفادها أنَّ المسلم مُلزمٌ شرعاً بكلِّ ما أَلْزَم به نفسه للآخرين، وهو ما يُطلق عليه "وجوب العمل بمقتضى الشروط"، وهي فضيلة يَبِيْنُ للمتأمِّل في واقعِ مُعاملاتنا هذه الأيام أنها تكاد تتوارى للأسف الشديد، حيثُ النكوص عن الوعود، والإخلال بالعهود، وأكل الأموال بالباطل، باسم "الاستذكاء" واستعراض القدرات على التملُّص؛ مما سقط بنا إلى هاوية الفساد، ناهيك عن تغاضي البعض عمدًا أو جهلاً عن عديد الأحاديث النبوية الشريفة التي تضبط العلاقة بين العامل وصاحب العمل -باعتبارهما هنا قطبيْ قاعدة "المسلمون على شروطهم"- ومنها قول المصطفى: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، و"إنَّ الله يُحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، و"من استعملناه على عملٍ، فرزقناه رزقًا، فما أخذه بعد ذلك فهو غلول".. إلى آخر تلك الشواهد التي انبنتْ على موجِّهاتها أمَّةً سادتْ العالم بالعدل والوفاء بالعهد ومراعاة الأمرالسماوي فيما يتعيَّشون به.

إنَّ قاعدة "المسلمون على شروطهم" ليست عبارة خبرية عن أمرٍ غيبيٍّ، بل هي قول "في مقام إنشاء الحكم"، والتعريف بـ"أل" يعني عموم المسلمين؛ أي على جميع المسلمين لزوم الثبوت عند جميع شروطهم، وهو ما يؤكِّده نصًّا آيات كثيرة في قرآننا الكريم: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ"، بتقريب أنَّ الآية بصدد بيان صفات المؤمنين اللازمة والواجبة عليهم؛ فذُكِرت الصلاة، والإعراض عن اللغو، وأداء الزكاة، ورعاية العهد، ومن مصاديقه الشرط، حتى يتم المطلوب؛ إذ يصير معنى الآية: يجب على المؤمنين رعاية شروطهم والتزاماتهم للآخرين، باعتبارها جزءًا من صحيح الدين بالضرورة.

فدينُنا الحنيف أرْسَى أساسًا متينًا يضمن تنمية الإنسان وتنمية موارده الاقتصادية، من خلال الحث على العمل والإنجاز؛ واعتبار التنمية مفهوما شاملا وعريضا، يستوعب كلَّ ما يُؤدِّي بالمرء إلى القيام بالخلافة في الأرض حقَّ القيام؛ فكانت الأوامر بإصلاحها، والنواهي عن كلِّ مَسْعَى يقود للفساد والإفساد والخراب والدمار وإهلاك الحرث والنسل.. ومن بَيْن هذه المسالك بكل تأكيد قاعدة "المسلمون على شروطهم"؛ إذ هي ركنٌ أصيل في تنمية الإنسان ذاتيًّا، تنمية قائمة على القيم، تَضْمَن حياة هانئة له ولشركائه في الحياة. وعقيدتنا بذلك تقفُ مَوْقِفًا مغايرا تماما للمرتكزات الوضعية في التنمية، التي تُسْتَمدُّ من فهمِ الفكر الإنمائي الوَضْعِي بطبيعة المشكلات المجتمعية؛ فالإسلام يُعالج جَوْهَر عملية التنمية وأبعادها بالأخلاق الفاضلة التي تهدف لتكوين الإنسان السوي الذي يشكل نواة مجتمع مِثَالي ينهض بالإيمان.

وَعَلَى هذا الأساس، وَبِهَا أختم، فإنَّنا وإذا كانت المراحل السابقة في تاريخنا الإنمائي، قد ركَّزتْ في مُحاولة البحث عن استنهاض هِمَم البناء على الرؤى الوضعية المعتمدة على العلاقة الطردية أو العكسية فقط بين المعطيات، فلماذا لا نُفسح المجال لتمكين "التنمية بالإيمان"، وتجديد التأكيد على علاقة العملية التنموية بالدين، وخلق تفاعل خلَّاق بين الأوامر الدينية وعمليات البناء؛ بإقامة قطيعة نهائية مع كل القراءات والخطابات والبرامج والرُّؤى والمسلكيات التي تركز على كل ما هو مَادَيٍّ مَحْض، مُتغافلة عن أسرار الفضائل الرُّوحية في صُنع المستحيلات، فقد استرشد بها أسلافُنا قديمًا، ومكَّنوا لحضارتهم في ربوع الأرضِ، حينما كُنا عظماء.

ammaralghazali@hotmail.com