د. عبد الله باحجاج
يبدو لنا من واقع الحال، أنَّ الكلَّ يمتص المواطن تحت مبرر الأزمة النفطية، ولولا وجود الهيئة العامة لحماية المُستهلك، ونجاحاتها الردعية الزاجرة لطال الامتصاص سلة غذائنا.
والمتأمل في مستقبل خارطة الرسوم والضرائب، ورسوم الخدمات التي يُقدِّمها القطاع الخاص للمواطنين خاصة في مجال التعليم الجامعي، سوف ينتابه القلق من أن تكون النخب السياسية ورجال الأعمال يهيئون البلد لجعل المواطنين مصدر ثرائهم أو منجم ذهبهم الجديد من بعد ما كانت الثروة النفطية مصدرهم.
وبنظرة سريعة، للإصلاح المالي التي تتَّخذه الحكومة منذ منتصف عام 2014، فسنجده يرتكز على خفض وترشيد الإنفاق، بما فيه تجميد الترقيات والتوظيف، وكذلك زيادة العائدات غير النفطية من خلال الرسوم والضرائب، وإعادة هيكلة الدعم المقدم للوقود والمياه والكهرباء والغاز، وفق آخر تصريح للوزير المسؤول عن الشؤون المالية لموقع بلومبرغ. وهذه كلها تشكل مناطق اجتماعية خالصة، قد أصبحت مناطق امتياز للحكومة لتعزيز الإيرادات غير النفطية، مناطق امتياز، تفعل الحكومة فيها ما تشاء ووقت ما تشاء، بحسابات رقمية خالية من أية اعتبارات اجتماعية. الشيء نفسه يقع فيه القطاع الخاص، وسنتوقف اليوم عند رسوم التأهيل التربوي، التي حددت دون أن تعتد بسياقات المرحلة الراهنة، وخارج سياق رعاية الدولة ودعمها للتعليم الجامعي الذي مولته- أي الدولة- من الألف إلى الياء، بدءًا من الأراضي المجانية، والدعم المالي السخي. ففي جامعة ظفار تبلغ 2700 ريال، دون قيمة الكتب، وربما تكون نفس الرسوم في الجامعات الخاصة الأخرى، أو أكثر بقليل، بينما في جامعة السلطان قابوس 1700 ريال، ولعام أكاديمي كامل أي سنة واحدة فقط.
فما مرد هذا التباين في القيمتين؟ حتى جامعتنا المجانية قد أصبحت تفكر في الامتصاص، بدلاً من أن تقدم التعليم بالمجان، لأنَّها مشروع وطني مجاني، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الضغوطات الشهرية على المرتبات كالرسوم والضرائب ورفع الدعم عن خدمات أساسية، فهل باستطاعة أولياء الأمور دفع رسوم التأهيل الآن؟ لدينا حالات قد تجاوزت اختبارات القبول في جامعة السلطان، ووزعت على الجامعة نفسها، وعلى جامعات ظفار ونزوى وصحار، وهى تعاني من مشكلة توفير هذا المبلغ، بسبب محاصرة مرتباتهم بالتزامات الرسوم والضرائب، وبالديون، وبتوفير الحد الأدنى من المعيشة، والقادم من الضرائب أخطر في سياق التوجهات الاستراتيجية الكبرى للحكومة التي تركز على مُرتبات المواطنين لتمويل الموازنة العامة. والمشكلة الكبرى التي تُحيِّر عقولنا الصغيرة، أنَّ الأزمة النفطية لم تعد بتلك الحدية التي تهز الكيانات والموازنات، فسعر النفط يحوم فوق (52) دولاراً للبرميل، وهناك تفاؤل كبير في المُستقبل النفطي بعد اتفاق الرياض وموسكو وفاعلين آخرين في منظمة "أوبك" ومن خارجها، على تمديد اتفاق خفض الإنتاج النفطي.
إذن.. لابد من الشفافية المالية التي طالبنا بها في مقالين سابقين، ودون ذلك لا يتصور قبول استهداف جيوبنا كمواطنين في ظل غياب المشاركة الاجتماعية في صنع القرار، وعن العلم بالوضع المالي العام للدولة.
وعوضًا عن أن يظل التعليم الجامعي مجانًا للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية، ألزمنا الأسر العمانية بتمويل التعليم الجامعي الخاص عبر تبني الحكومة سياسات تعليمية تدفع بالأسر التي لم يحصل أبناؤها على مقاعد حكومية مجانية إلى التوجه نحو التعليم الجامعي الخاص المدفوع الثمن، والقلق ينتابنا من تطور حالة التوجه نحو القطاع التعليمي الخاص، وهذا القلق يدفع بنا إلى التساؤل مبكرا، متى سترفع الدولة يدها عن مجموعة القطاعات الخدمية مثل الصحة والتعليم؟
وعندما نستحضر تجارب عربية غير بترولية، ونقارنها بشأننا الداخلي، تظهر لنا المُفارقة، فقد حصلنا على درجتي الليسانس والدكتوراه في دولة عربية شقيقة بالمجان، وتقدم تعليمها العام والجامعي والعالي لسكانها البالغ عددهم قرابة (34) مليون شخص، بل لكل طالبيها من أنحاء العالم بالمجان، وعددنا نحن العمانيين لم يتجاوز المليوني نسمة، فكيف تستوي المُقارنتان؟ ولو استمرت الحكومة في سياساتها المالية والضريبية، وواصلت الجامعات الخاصة تطبيق رسومها المرتفعة، فمن المؤكد أن الأبواب التعليمية ستغلق أمام الكثير من الأبناء، وهذا يفتح لنا رؤية استشرافية لواقع تصنعه الآن مثل تلكم السياسات الحكومية والخاصة.
ورسالتنا العاجلة هنا، أنَّه ينبغي على الحكومة أن تنفتح على ظروف المجتمع، تقديرًا ومراعاة لها، فليس كل خدمة ينبغي أن تفرض عليها رسوم، كما أن منظومة الرسوم والضرائب، يجب أن تخضع لمنطق التحليل العلمي لمعرفة تداعياتها الاجتماعية، وهذا الانفتاح يحتم أن يكون برنامج التأهيل التربوي مجانًا، لأنَّ الأسر لا تتوافر لديها السيولة المالية لدفع رسومها العالية في ظل الظرفية المالية الراهنة. كما إن الأسر ليس أمامها من خيار سوى الاستدانة أو بيع أراضيها السكنية، أو عدم الاستفادة من فرص العمل المتاحة لأبنائها في قطاع التعليم والتي تحتم التأهيل. فهل ينبغي أن تأخذ الحكومة على تأهيل مواطنيها لسوق العمل "فلوس"؟ وهي المسؤولة الاولى عن تعليمهم وتكوينهم لسوق العمل؟ وهل ينبغي أن تكون الرسوم على خدمات التعليم بهذا الارتفاع، وكأن الأسر لم تضرر من سياسات الحكومة المالية والضريبية بسبب الأزمة المالية؟ أن منظومة الكثير من الرسوم تغرد خارج سربنا الاجتماعي، فارحموا الأسر التي هي بنية المجتمع، فهي تواجه الآن لوحدها مجموعة أزمات ثقيلة، ستكون تداعياتها على المدى المنظور، وهي قريباً، وقبل أن ننهي هذا المقال، أوجه سؤالي لكل مواطن يعتمد بشكل أساسي على الراتب، هل بإمكانك أن تدفع الآن (3000) ريال رسوماً للتأهيل التربوي والتسجيل والكتب؟ ولو قسطت لك شهرياً، هل تستطيع أن تغطي نفقاتك الأسرية الأساسية الشهر كاملاً؟ وكيف لو كانت هناك استحقاقات تعليمية أو صحية أو سكنية... أخرى، ربما لن نتحدث عن النصف الأول، هذا بالنسبة لأصحاب الدخول المتوسطة، فكيف بالضعيفة؟ الله المُستعان.