أزمة حوار الأديان

عبدالله العجمي

إن غالبية الحضارات التي نعايشها اليوم خرجت من تحت عباءة الرسالات السماوية السمحة، أو لرُبما ترعرعت تحت ظلّ غيمتها.. ولكن حينما عظُم شأنها وبزغ نجمها، حاولت إخضاع تلك الرسالات لأهوائها وتطلعاتها، ليتم بعدها توظيف تلك الرسالات وتعاليمها الطاهرة لخدمة المصالح السياسية لتلك الحضارة؛ فاختلط حينها الحابل بالنابل، وتشابكت الغايات واختلطت الأهداف، وجرى تسييس غايات الرسالات لخدمة الحضارات؛ حتى صار من الضرورة بمكان التفريق بينهما، خاصة حينما نرى أن علماء الأديان تمترسوا في خندقين؛ إمّا مع السلطة أو معارض لها، وبين هذا وذاك خبا ذِكر  المعتدل منهم فضاع الناس بينهما، وأصبح قيام صحوة لتصحيح الانحرافات التي ترسّخت جرّاء ذلك أمراً في غاية التعقيد.

إن ازدياد عدد المراكز والهيئات الداعية إلى حوار الأديان لهو أكبر دليل على وجود انحراف في بعض المسارات سواء في نطاق الدين الواحد أو على نطاق يشمل بقية الديانات، فالعقبات التي تعترضها والقصور في فهم تعاليمها وتداخل الأدوار بين رجالاتها كل ذلك مؤدّاه إلى ازدياد عدد هذه المؤتمرات، والتي برأيي أنها إذا اقتصرت على مجرد اللقاء دونما الخروج بخطة عمل، وخارطة طريق تنطلق من عمق كافة المواد المطروحة بها؛ فإنها حتماً ستنتهي بنتائج محدودة، وأدنى بكثير من المؤمّل منها، وستكون بعيدة حتما عن وضع الحلول الناجعة في صحيح الطريق.

ولعل المُطِّلع اليوم على المشهد الفكري للعالم العربي وما يجري فيه من محاولاتٍ حثيثة لجرّ هويّتِه إلى سحيقٍ من حُفرِ التفسّخ والانحلال الفكري؛ من خلال تسخير تلك الرسالات لتكون في خدمة الحكومات والأنظمة؛ يدعو كل الغَيَارى على نقاء تلك الأديان إلى التحرّك لتبنّي مشاريع تحرّرها من شباك علماء الملوك ممن لا شغل لهم سوى شرعنة ما يُطلب منهم غير آبهين بما يترتّب على ذلك من قتل، ودمار، وتهجير للبسطاء.

ولكي نسمّي الأمور بمسمّياتها فهناك الكثير من القضايا الكبرى التي كانت ولا زالت وستبقى أساسية ومهمة، منها قضية فلسطين، والتي ينظر لها العالم المعاصر على أنّها قضية خلاف سياسي بحتة؛ لكنها تعتبر من أهم قضايا الحق والعدالة والإنسانية لدى كافة الأديان والرسالات السماوية؛ خاصّة ونحن  ندرك جميعاً أنّ العالم بأجمعه يسعى جاهداً ليوجّه تفكيرنا باتجاه التخلّي عنها تدريجياً، فيروّجون لشرعنة الظلم أحياناً، وقبول الواقع على الأرض أحياناً أخرى؛ ما يهدّد بتغيير خطير في الخارطة الذهنية لأمّتنا. ألا ينبّهنا هذا الواقع من غفلتنا وقد عايشنا الاحتلالات المتتالية لمنطقتنا تحت عناوين متعددة، لكن وللأسف لم يعد العرب ينبسون ببنت شفة، فضلاً عن القيام بتغيير على أرض الواقع.

وعوداً على بدء، فإنّ الانتقال من خانة الحوار المعتمد على شواهد ومنطلقات تاريخية، إلى حوارٍ فكريٍّ عصري، والانعتاق من تلك الأفكار التي فرضتها بعض التعقيدات والأحداث الكامنة في التاريخ إلى تأسيس نهضة فكرية تقودها الحداثة؛ لتؤرّخ لمرحلة جديدة، تخرج الأمة من دائرة ما أفرزه لنا السابقون، ويضعها في جوٍّ من السلام المنبثق من تعايش تشرئِبُّ له أعناق الجميع، ويلتفون حوله بل ويأتونه سعياً من كلّ فجٍّ عميق.

لذا فإنّه ينبغي ألا تبقى هذه الضبابية في آلية الحوار، بين تلك القناعة التي تتشكل من تلك الندوات الحوارية، وبين الثقافة التي يجب أن تُغرس في عقول الشعوب، وهو ما يُحتّم علينا إعادة تقييم الخطاب الذي يمارسه المثقفون، لتقليص هذه المسافة الشاسعة الواقعة بين القيادات وبين عوام الشعوب، لكي لا يحلّ محلّهم من يُخاف منهم على هؤلاء العوام كوعّاظ الملوك والمتشددين ممن يمكن أن يحرف البوصلة إلى التضليل والتكفير معتمداً على حوادث أمست طيّ التاريخ، ممهدين لخلافاتٍ تعتمد على التباسٍ في الفهم أو مغالطةٍ في التفسير والتأويل.

وبالإضافة إلى ما ذكرنا من دور المثقفين والعلماء المعتدلين فإنّ أي حوارٍ ليُحقق أهدافه ينبغي أن تنصهر فيه القيادات الروحية، وتذوب ذوباناً في أوساط عامة الشعوب؛ لأن هذا وحده ما سيخفف ويهدّئ من تلك الضغوط التي تزيد من تخبط وعشوائية اختيار المسارات لدى أيّ أمة.

*رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي