علي بن مسعود المعشني
سأتناول في هذه العجالة مرة أخرى موضوع الساعة وهو الأزمة الاقتصادية وإجراءات التقشف التي أقدمت عليها الحكومة لاحتواء الأزمة ومحاولات الحد من آثارها، رغم أنها يمكن اعتبارها "قضية" رأي عام بامتياز، حيث أصبحت حديث العامة والخاصة، ومادة دسمة ومثيرة لوسائل التواصل الاجتماعي؛ فالكل يدلي بدلوه في تشخيصها ووضع الحلول المناسبة لها، وفي المحصلة النهائية يمكنني القطع بالقول بأننا في قادم الأيام سنحصد ما زرعناه طيلة الـ 47 عامًا من عمر نهضتنا المباركة بلا زيادة أو نقصان، فالأزمة كبيرة وحلولها الجذرية قد أهدرت في سنوات الرخاء ولم نعد نملك اليوم سوى إدارتها ومحاولات الحد من آثارها فقط .
رغم أن المواطن يسمع جعجعة هائلة من المشروعات العملاقة هنا وهناك إلا أن ثقته بها لحل الأزمة شبه معدومة وذلك لغياب التخطيط والعبرة من الأزمات السابقة ولكون الأزمة الحالية أتت على أعتاب تحديات اقتصادية عالمية تتجاوز قدراتنا ومخططاتنا وأنماط تفكيرنا بل وتتجاوز آمالنا. كما إنّ إجراءات الحكومة التقشفية المتلاحقة تشي بأنّ العلاج مفقود وميؤوس منه لديها. هذه ليست دعوة مجانيّة لبث الإحباط وبسط اليأس بين الناس بل ناقوس إفاقة صادق لكل من يتابع مؤشرات الاقتصادات في العالم وبروز تكتلات سياسية واقتصادية في جغرافيات مختلفة وأنماط سلوكيات استهلاكية جديدة، وتغيّر قواعد الصراع في لعبة الأمم ومنها حروب الاقتصاد، والذي تمثل الطاقة وبدائلها أمضى أسلحته اليوم. لن يستغني العالم بلاشك عن النفط ومشتقاته في غمضة عين، ولن يجد طاقة بديلة عنه في غضون سنوات المستقبل القريب، ولكن من المؤكد أنّ النفط لن يعود ذلك الذهب الأسود ولا البقرة الحلوب دائمة الإدرار ولا الدجاجة التي تبيض ذهبًا. فأسعار النفط وكما تقول أكثر المؤشرات تفاؤلًا – نتيجة الإغراق وبدائل الطاقة - لن تزيد عن سعر (60) دولارا للبرميل، وبهذا فسينقلب السحر على الساحر وسيكون المستفيد الأول هو المستورد للنفط وليس المنتج والمصدر له، والخاسر الأكبر ستكون الدول النفطية ذات الاقتصاد الريعي، والتي راهنت على النفط وديمومته وارتفاع أسعاره وزيادة الطلب عليه إلى مالا نهاية. مداخيل النفط في أقطار الخليج حققت نموًا ولم تحقق تنمية، فالنمو في الأرقام مهول وواضح للعيان من أثر عوائد النفط ولكن التنمية بمفهومها الواسع والعميق لا أثر ملموس لها رغم الوفورات المالية الهائلة التي نعمت بها خزائن أقطار الخليج لعقود خلت ولكنها أنفقت في مظاهر احتفالية ومشروعات طفيلية وتوسعات عمرانية مظهرية هائلة وغير مدروسة أتت على نصيب لا يستهان به من الطاقة النفطية المقررة للتصدير بهدف تحقيق عوائد مالية مجزية من العملات الصعبة. لهذا نما العقار ومظاهر التمدن ولم تنمُ العقول المنتفعة بهما.
بلغت نسب استهلاك بعض أقطار الخليج للطافة المحلية ما يفوق ثلث إنتاجها من النفط وهي نسب في ازدياد سنوي ملحوظ نتيجة التوسع العمراني الهائل وغير المدروس، حيث يقول خبير اقتصادي أردني إنّ أقطار الخليج ستستهلك كل إنتاجها النفطي عام 2030م لتغطية تكاليف تشغيل الطاقة الكهربائية في بلدانها إذا استمرت على وتيرة التوسع العمراني الحالي، وستضطر لاستيراد النفط لتغطية حاجات السوق المحلية. هناك دولتان خليجيتان تستهلكان أعلى المعدلات في العالم لوقود الطائرات لتلبية التوسع الكبير لأساطيلها الجوية للنقل رغم التراجع الكبير لسوق السياحة والسفر في العالم، وهذا الاستنزاف الكبير بكل تأكيد يأتي على حساب مقدرات أخرى. لا شك أنّ الوقت قد حان لاستيعاب الصدمة وإفهام الناس حقيقة أنّ عصر الرفاه ودولة الرعاية قد انتهيا إلى غير رجعة، وأنّ براعتنا اليوم تكمن في كيفية إدارتنا للأزمة ومنع المزيد من الانزلاقات الكارثية. فسياسة الهروب إلى الأمام لن تجدي نفعًا بل ستعود وبالًا على الدولة بجميع مكوناتها وشرائحها، وعلينا البحث عن حلول ذكية تشريعية وإجرائية وإعادة هيكلة النفقات وأولوياتنا التنموية والجهاز الإداري للدولة، والنزول بخطابنا الإعلامي إلى الشارع لإرشاد الناس إلى كيفية جدولة حياتهم وتغيير أنماط معيشتهم وأوجه إنفاقهم والاحتكام لهندسة مالية صارمة في توجيه مدخراتهم. مع ضرورة السعي الحثيث من قبل الحكومة لمحاكاة وتقليد تجارب البلدان ذات الاقتصادات المتنوعة والتي لا تعتمد النفط في اقتصاداتها، وتعزيز مساهمة المواطن في الأمن الغذائي واستثمار الخامات المحلية من زراعة وصيد بحري وثروة حيوانية ودعمها للخروج من تخدير زمن النفط وإدمان الوظيفة الحكومية، والتي أتت بفعل مغرياتها على شرائح منتجة وهامة في المجتمع العماني وفي زمن قياسي وعلى رأسها المزارعون والصيادون ومربو الماشية والحرفيون.
قبل اللقاء: يقول الدكتور مصطفى محمود: إنّ مشكلتك ليست في سنوات عمرك التي ضاعت، بل في سنوات عمرك القادمة والتي ستضيع حتمًا إذا واجهتها بنفس العقلية. وكما يقول آينشتاين: الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً.
وبالشكر تدوم النعم..