"بين حانا ومانا.. ضاعت لحانا"

 

هلال الزَّيدي

صَعَد إمامُ الجامع المنبر فاعتلى، وبدأ بالسلام فحيا، فبسمل وحمد وأثنى، وعلى نبي الرحمة سلم وصلى، فقال أقوالا وأمثالا من أصناف شتى؛ لأنَّه أراد أن يوجه ويقيِّم سلوكيات مجتمعية سادت وطغت ومن شدتها أدمت؛ لذلك ومن الواجب أن يقوم بدوره ولا يصمت؛ لأنَّ العقول لم تعُد تقوى على ما يحدث؛ فعلى صوته ليُسمِع، وغاص في بحر اللغة واسجع.. وكلُّ ذلك من أجل أن لا نتذمَّر، ونرفع سقف التوقع ونتنمّر؛ لأننا لا نعيش في مجتمع فاضل عن الخطأ معصوم. وبديهيًّا، أنْ تحدث المشاكل لأنها قدر محتوم؛ لذلك شدَّد على ربط الأحزمة، حتى لا نكون الضحية، وعلينا أن نحسن الاختيار في البضائع المهمة؛ من أجل نبذ الإسراف الذي يقود إلى المهلكة؛ وبالتالي علينا أن نبحث عن الحل وليس في جوهر المشكلة، والحل بأيدينا وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي! فكيف يا ترى سنكتفي ذاتيا؟

يعتبر الاتصال الجماهيري عبر خطب الجمعة من المنابر المهمة التي توليها الجهات المختصة اهتماماً كبيراً؛ كونها تمثل "الشرعية" من حيث أنها تتم في أماكن طاهرة فتمرر عبرها الكثير من الأمور التي يراد لها أن تبدو جلية لما للمنابر من تأثير في سلوكيات البشر -بحسب ما يعتقد- لذلك حمل الإمام الرسالة فقال وأمر وفي الوصف أسهب، وغاص في لجج الألفاظ وأطنب، وكان حول حمى القضية يحوم، حسبته نسرا يتفقد ليفترس ثم يهوي فيعوم على تلك الأجساد مطالبا أن نزرع الأرض بما نحتاج من خضار حتى لا نقع فريسة المحتكر المكّار الذي لا يراعي في المستهلك إلًّا ولا ذمة مهما صار؛ فتختفي على إثر ذلك الجودة ونقع في غياهب المضاعفات التي تودي بالحياة في المأكل والمشرب ومتاعب جمة، لأن سلة غذائنا ملغمة، حيث طغت عليها المواد غير المسموح بها للاستهلاك الآدمي فصارت مسممة وغدت الأجساد منها دامية، وعلى الرغم من اكتشاف تلك التجاوزات إلا أن إثباتها صعب للغاية، وتحتاج إلى خبرة ودراية لأن الأطراف فيها كثيرون، ومتعددون، ولهم فيها منافع ومصالح ومآرب شتى وهم منتشرون؛ لذا دعوة الإمام إلى زراعة الأرض هي حل في نظره أراده غيره، من أجل أن نشترك في الخطأ أو الجرم المرتكب على مد بصره، لكن الحقيقة غائبة والقضية متشابكة، والهوة سحيقة مريبة.

بتلك الأحداث التي ساقها وطوَّعها الإمام مع الدستور العظيم لتغليفها بالشرعية وفق الصراط المستقيم، ختم خطبته، فصلى بهم ودعا لهم وألقى ما في جعبته.. ليخرج المصلون كما دخلوا لأن غالبيتهم "أجانب" لا يفقهون، وبحسب ما قيل هم جوهر القضية فيما حل "بالأرض الزراعية"، لكن هناك من توقف على ما قيل في تلك الخطب الطاغية حتى يستوعب الأزمة التي لم تجد من يتبناها ليضع لها الحلول، فكل من خرج أمام الجمهور نفض يده منها وصار يجول، وأخلى ساحته من همِّها عرضا وطول؛ لذلك حاولنا أن نصدِّقهم و"نكذِّب" من ادعى الباطل وحاق بهم بهدف شق الصف الذي لما يكتمل بعد، وعليه فإننا نحتاج إلى تغيير "نوتة" العزف التي امتهنها الكثيرون من خطباء ومسؤولين حتى نتقبل ما يقولون لأنَّ كلامهم ملأ الفضاء وتصدَّعت منه الآذان، فلم يُسمِن ولم يُغْن من جوع.

ولو عُدنا إلى ما دعا إليه الكثيرون في قضية "الزراعة"، لوجدنا أنَّ الصمتَ أبلغ منه، ومهما علت الأصوات في قاعات التشاور، إلا أنَّها لا تتفق في مُجملها؛ فهناك من غرد خارج سرب تلك القاعة وقال بصريح العبارة: "على المسؤول "س" أن يعلن استقالته كجزء من اعترافه بخطئه وهول الأمر الذي وقع"؛ لأنَّها الفضيحة التي تُرتكب بحق المجتمع؛ لذلك ومع ارتفاع وتيرة تلك الأصوات إلا أنها تبدو كفقاعة ما تلبث أن تختفي بانتهاء الجلسة، لتعود المياه إلى مجاريها على الرغم من السدود التي توقفها، وهذا بحدِّ ذاته تظاهر بجريان المياه، لكنها في الحقيقة مياه آسنة فاحت روائحها النتنة، وفي المقابل هناك من يتلذَّذ بتجرعها تحت أطر الاحتياجات المختلفة.

أيُّها الأقوياء، عليكم أن تجلدوا ذواتكم لتتعلَّموا أنكم جزءٌ من منظومة الأخطاء التي تظهر كمشهد مسرحي بين الفينة والأخرى، وتختفي بانتهاء مسرحية اكتشاف الأخطاء ثم نحتفي، لتكون بعدها مجرد "تجنِّي" أراده مجموعة من الأفراد ليلطخوا سُمعة "الأشراف" الذين نذروا أنفسهم ووقتهم خدمة لكم، فلا تكُوْنوا متذمرين متنمرين، ارضوا بواقعكم وعيشوا آجالكم.

نعم.. إنَّه خطأ المجتمع الذي لم يزرع ليحصد، على الرغم من توافر كل مقومات الزراعة؛ فهناك الأراضي الشاسعة والخبرة الواسعة، والمياه الدفاقة والتربة الخصبة السامقة؛ فلماذا لا تزرعون؟ ومهما كانت المياه غورا فعليكم أن تزرعوا نهارا وتنتظروا الغيث ليلا.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.. اقمِ الصلاة.

-------------------------------

همسة:

هُناك أرض زراعية لكن لا يوجد بها مصدر للري، و"الزراعة" مُصرَّة على تسميتها بأرض"زراعية"، و"المياه" كجهة تُحافظ على المنسوبات الجوفية مُصرَّة على عدم منحها تصريحا، و"الإسكان" خلَّدتها في مُستند رسمي على أنها زراعية، وأصحابها ينظرون إليها صباحاً ومساءً علَّهم يستطيعون التأقلم مع قصتها.. فبين "حانا ومانا ضاعت لحانا".

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com