د. عبدالله باحجاج
تفتح قضيّة حظر الإمارات لبعض المنتجات الزراعية العمانية أبواب حرب خضروات خليجية مقبلة، ويبدو أنّها ستكون مفتوحة، لعدة اعتبارات، أبرزها، التتابع الخليجي في تبني سياسة الحظر بالتبعية الإماراتية، كأسلوب احترازي، فدول خليجية قد اتبعت النهج الإماراتي، اقتداء وليس اكتشافا، في مقابل تهديد السلطنة باستخدام مبدأ المعاملة بالمثل، وهو مبدأ أصيل ومشروع في العلاقات الدولية، رغم أنّ ذلك ليس في مصلحة هذه الدول، فرادى وجماعة.
كما أنّ دخول السعودية على خط الحظر باتجاه الإمارات، حيث تتحدث وسائل التواصل الاجتماعي عن حظر سعودي لمنتج زراعي إماراتي بسبب احتوائه لمتبقيات كيميائية ضارة بالصحة، يعزز احتمال اندلاع حرب الخضروات، وقد تتحول إلى تجارية، ما لم تتم المسارعة إلى الاحتكام إلى العمل المؤسساتي الجماعي بعيدا عن تجاذبات المبادرات الفردانية، وهناك اعتبار آخر مهم، يرجح اندلاع هذه الحرب؛ وهو تورط معظم إن لم يكن الدول الست بصورة أو بأخرى في قضية المبيدات المحرمة دوليا أو سوء استخدام المبيدات المسموح بها دوليا من قبل المزارعين، مما قد تدخل العلاقات الخليجية/ الخليجية في مرحلة جديدة من التوترات السياسية على خلفية الخضروات المضرة بالصحة، ومن خلال متابعتنا لهذه القضية في العواصم الخليجية، فقد وجدنا وسائل إعلامها تدق ناقوس الخطر منذ عدة سنوات على سلامة الغذاء بسبب استخدام المبيدات المحرمة، ومن المعروف، أن تجارة المبيدات المحظورة عالميا ما زالت مزدهرة، ولها أسواقها السوداء، ولن تتمكن أية دولة في عالمنا الثالث بما فيها الدول الخليجية الست من الجزم بخلو مزارعها من أية مبيدات محظورة.
إذن.. هل ستقود قضيّة المتبقيات الكيميائية في بعض المنتجات الزراعية العمانية العلاقات العمانية الإماراتية، والخليجية الخليجية إلى أزمة جديدة داخل المنظومة الخليجية؟ نعتب على الأشقاء الإماراتيين لجوءهم إلى وسائل التواصل الاجتماعي في الكشف عن المتبقيات في منتجاتنا الزراعية قفزا فوق عمل المؤسسات الخليجية المشتركة أو الثنائية، مما أحدث ارتباكا مؤسساتيا، وصدمة اجتماعية عمانية من الطريقة نفسها، مع التسليم الكامل بحق الأشقاء في الحرص على سلامة غذائهم، ومع التسليم الكامل بمبدأ الشفافية، ومن حق المواطنين بمن فيهم المواطنون العمانيون معرفة الحقيقة كاملة؛ لأنّ هذه القضية تتعلق بأهم حقين للإنسان، وهما الصحة والحياة.
لكن، هناك أطر مؤسساتية قد تم تجاوزها، فقد كان يفترض من أبوظبي استعمال نظام الإنذار السريع لدول الخليج العربية، والذي من خلاله تلجأ كل دولة إلى تحذير مواطنيها من منتج أو سلعة مضرة بالصحة العامة، وهذا لم يحدث، إلا بعد الكشف عن قضية المتبقيات عبر التواصل الاجتماعي، ولمّا فعلت آلية الانذار السريع، أقدمت وزارة الصحة بنشر هذا الإنذار الذي شمل كذلك منتجات زراعية من دول عربية، كما أنّ هناك تنسيقًا بين وزارتي الزراعة والثروة السمكية مع وزارة التغير المناخي والبيئة الإماراتية – كما كشف عن ذلك وكيل وزارة الزراعة والثروة السمكية أثناء لقائه السفير الإماراتي لدى السلطنة – لم يُفعّل هذا التنسيق في قضيّة المتبقيات، فلماذا لم تتم معالجة القضية في إطار المؤسسات الخليجيّة المشتركة أو في إطار التنسيق العماني الإماراتي؟ وكيف فضلت أبوظبي خيار "الميديا" في الكشف عن حظرها؟ من هنا تمّ التلويح العماني بمبدأ المعاملة بالمثل، وهو يحمل في طيّاته تهديدا بالحظر نفسه، معاملة وإعلانا، وكذلك، تجاوز آلية التنسيق الثنائية والجماعيّة في حالة الكشف عن متبقيات مماثلة أو مشابهة في منتجات إماراتية.
وهذا المنحنى الحاد في العلاقات التجاريّة بين الأشقاء الذين يشعرون بالكيان الواحد، والمصير المشترك، لن يخدم مصالحهما وعلاقاتهما، ومن ثمّ لابد التعاطي مع هذه القضية من منظورين؛ الأول: إنّ قضية المتبقيات جزئية وليست شاملة، وعارضة وليست دائمة، بدليل، ما أقدمت عليه وزارة الزراعة والثروة السمكية بعيد انفجار هذه الأزمة، من تحليل (1600) منتج زراعي عماني، ووجدته خاليا من أية متبقيات تضر بالصحة العامة، كما أنّ قضية المتبقيات ليست عمانية حتى في جزئيتها الاستثنائية والمحدودة في ثلاث منتجات زراعية، وإنّما هي خليجية، وعربية كذلك، فكل دول الست تعاني من تداعيات السوق السوداء للمبيدات الزراعية، وبالتالي، فهي قضية عامة، وعوضا عن اللجوء إلى حرب المقاطعة المؤقتة أو الدائمة لمنتجات دون غيرها، يكون بالأحرى الدعوة إلى عقد لقاء خليجي/ خليجي على مستوى رفيع لبحث هذه القضية، والتوصل إلى تفاهمات وآليات عمل تضمن سلامة الغذاء في كل الدول الست، علما بأنّ اية اختلال في المنظومة الغذائية لأية دولة خليجية سيضر بكل المواطنين الخليجيين، ففي الإمارات مثلا، عمانيون إمّا مجنسون أو يعملون هناك أو زائرون، وما أكثر الزائرين على مدار اليوم، بالتالي، فإنّ قضية المتبقيات تمس صحة كل الشعوب الخليجية حتى لو ظهرت المشكلة في دولة واحدة.
من هنا، فإنّ الحديث عن السيادة الوطنية لسلامة الغذاء لا ينبغي النظر إليه من منظور الفصل الجغرافي بعد أن أوضحنا التموقعات الديموغرافية الخليجية داخل الدول الست، وإنّما من منظور تداعي الكل لتداعي الجزء، وهذه الخصوصية الخليجية، ينبغي أن تدفع بالدول الست - كما أوضحنا سابقا - إلى العمل الجماعي في تعزيز الرقابة على سلامة الغذاء، بل وتدفع بهم إلى العمل المشترك في تأمين سلة الغذاء من الداخل الخليجي، استغلالا للأراضي الخليجية الزراعية، وخلق تكاملية جماعية صناعة ونظام رقابة صارمة، خاصة الآن، بعد ما تمّ اكتشاف حجم هذه القضية عربيا، مما يطرح الآن أهم وأخطر التساؤلات، وهو، هل تتجه دول الخليج العربي لوقف استيراد المنتجات العربية؟ ومن ثمّ ما هي بدائلها الاستيرادية؟ هنا يظهر التكامل الغذائي الخليجي/ الخليجي صناعة ورقابة أهميته القصوى، ففي إحدى دول الجوار الخليجي تمّ مؤخرا اكتشاف خمسة أنواع من المبيدات المحرمة دوليا المسببة للأمراض السرطانية، باعترافات رسمية، وفي إحدى الدول العربية الزراعية الكبيرة، يتحدث خبراء المبيدات والسموم أنها مليئة بالمبيدات المسرطنة والمحرمة دوليا مثل: "DDT" و"التميك" و"كابتان" و"بروموكيسفيل" و"كلوروثالونيل" و"فولبيت"، والخبراء يعرفون خطورة مبيد "DDT"، والدولة الصانعة له، ولماذا تسوقه عربيا، أقل خطورته أنّه يظل بالتربة 30 عاماً.
إذن، على الدول الست مجتمعة التفكير في كيفية حماية الإنسان الخليجي من الأمراض الناجمة عن المبيدات الزراعية من خلال العمل الجماعي المحصن، لا الفردي، واعتبار كل شأن خليجي هو شأن عام وليس خاصا، فالجغرافيا الخليجيّة تحوي ديموغرافية واحدة، ممتدة نسبا وتجذرًا في تربة الدول الست.
وطرحنا سالف الذكر، لا يعفي مسؤوليتنا الوطنية عن قضية المتبقيات أبدا، بل تحملنا مسؤولية مساءلة الفاعلين الحكوميين الذين تركوا مزارعنا يعبث فيها وبها وافدون جل همّهم الربح على حساب الصحة العامة، ولم يعملوا على تفادي وقوع هذه الحالات الفردية، بدليل أنّ المطالبة بإنشاء مركز سلامة وجودة الغذاء وكذلك بوجود مختبر مرجعي، تتوحد فيه الجهود المختلفة، قد يجف حبرها من الورق قريبا، وعلى مستوى المحافظات، وعلى وجه الخصوص ظفار، فحدث، ولا حرج، وتبدو لنا القضيّة أكثر خطورة، وافدون يستأجرون الحيازات الزراعيّة من المواطنين باقل الأثمان ودون رقابة.. بالليل يرشون المبيدات، وصبيحة اليوم التالي يبيعون الفواكه والخضروات للمستهلكين.. دون معرفة منهم بكيفية استخدام المبيدات ولا خطورتها، وماذا يضمن لنا أنّ تجارة المبيدات المحظورة عالميا، لم تغزو أسواقنا، ولم يستخدمها المزارع الوافد؟ لا ضمانات متوفرة، بل كل المعطيات والمشاهدات تشير إلى أنّ كل شيء مباح ومستباح أمام المزارع الوافد.. وأمام طغيان شركات المبيدات التي وراءها وافدون كذلك.
فهل نجعل من قضية المتبقيات التي أثارها الأشقاء الإماراتيون مرحلة تحوّل في إعادة تنظيم قطاع الثروة الزراعية والسمكية والحيوانية من جهة وفي قضية استيراد ضرورات أمننا الغذائي من الخارج، وفي إقامة نظامين، أحدهما، مركزي، والآخر إقليمي في كل محافظة من محافظات البلاد، لدواعي بناء نظام للرقابة عالي المستوى، فالأخطار داخلية وخارجية، وعلاقات بلادنا التجارية في تصاعد كبير، من هنا ينبغي أن نحول هذه الأزمة إلى نقطة تحوّل في كل شيء، ولو استدعى الأمر تغيير الفاعلين، من منظور شمولي كإعادة هيكلة المنظومة بأكملها على خلفية قضيّة المتبقيات، وقد أصبح مطلبًا اجتماعيًا.