د. عبد الله باحجاج
لم نكن نتوقع، أن تنتج القضية التي أثرناها في جريدة الرؤية حول معاناة جزر الحلانيات مع فوبيا البحر، وتفاعلت معها إذاعة هلا اف أم، عبر إجراء لقاء مطول معنا، وعقبها تحقيق استقصائي ميداني، لم نتوقع أن تنتج نتيجة جزئية ومحدودة، ومن الشركة الوطنية للعبارات فقط، في ظل سلبية الكثير من الجهات الحكومية المحلية والمركزية، وجزئية الاستجابة، تكمن في تسيير رحلة بحرية واحدة فقط في الشهر إلى الحلانيات، وهي رحلة خاصة بالشحن، أي أن الوضع الذي كان عليه قبل سحب العبارة من الحلانيات، لن يرجع لما كان عليه سابقاً.
لماذا؟ لأن شركة العبارات الوطنية ترجع ذلك إلى أسباب فنية، وترمي بها في ملاعب جهات حكومية، وهذه الأسباب الفنية، بسيطة جدا، لن تعجز إرادة الحل الجماعية لو توفرت، وهي غير مكلفة ماليا، وإذا لم تتوافر الآن بعد التصعيد الصحفي والإعلامي، فمتى ستتوافر هذه الإرادة؟ وتكمن أبرز هذه الأسباب الفنية في عدم وجود طاقة كهربائية في الميناء الجديد في الحلانيات الذي أنفقت عليه الدولة (40) مليون ريال، وعدم جاهزية ميناء حاسك، وبسببها، لن ترجع العبارة السريعة الخاصة بنقل الأشخاص، وإنما سيكتفى بالعبارة البطيئة التي تسير مثل السلحفاء، ولمرة في الشهر، فالمسافة التي ستقطعها هذه العبارة من صلالة إلى الحلانيات أكثر من (18) ساعة في رحلة الذهاب، ومثلها في رحلة الإياب، لن نقلل من أهمية هذه الاستجابة، لكن تظل محدودة جدًا، وخجولة، قياسًا بما كان ينبغي أن تكون عليه، ورغم ذلك فهي مهمة لدواعي نقل الغذاء والأشياء الثقيلة كالسيارات، أما الأشخاص لدواعي المرض أو قضاء حاجة ملحة خارج الجزر، فسيظل الوضع كما هو، وهذا التدخل الجزئي، والمحدود، لا يُعبر لنا عن إرادة مؤسساتية جماعية لحل مُعاناة المواطنين في تلك الجزر، وإنما يعكس لنا حجم الضغوطات التي وجد بعض الفاعلين بما فيهم الحكوميين أنفسهم تحتها، ومن يعمل تحت الضغوطات سيكون إنتاجه موازيًا لضغوطات اللحظة، ومحاولاً في الوقت نفسه تبرئة نفسه من التقصير.
من هنا، نتوقع أن يخرجوا لهذه النتيجة رغم محدوديتها سيناريوهات سينمائية، كإنعدام الربحية المالية من وراء تسيير العبارة حتى شهرياً إننا نرى هذا السيناريو منذ الآن، وهذا ما يستوجب علينا التنبيه إليه مسبقًا، وهو لا يرتقي إلى مستوى إدارة دولة لمعاناة مواطنين داخل هذه الجزر المحيط بها مياه بحر العرب من كل الجهات، والبعيدة عن اليابسة، وإنما إدارة فردية لوزير أو مسؤول رفيع استجاب لمطالبات الرأي العام، وتأثر بها صناع القرار، فمن حق المواطنين في الحلانيات على الحكومة أن تؤمن لهم وسيلة آمنة ودائمة للانتقال والتواصل مع مُحيطهم الترابي الوطني بصرف النظر عن الربح والخسارة، فالدولة شقت الجبال بالمليارات، وتم ربط الوطن بكل جزئياته وكلياته، فكيف يستعصي على الحكومة أن تصنع ذلك لسكان الحلانيات إذا كان منطق تسيير العبارة قائمًا على العائد المالي؟
وهذا سيكون تحولاً في فلسفة البعد التنموي للدولة، بل وفي الغائية منها، وهي غائية قائمة على استيعاب واحتوء البعد الديموغرافي بالخدمات المجانية حتى إلى مسقط رأسهم، فلو تأملنا في خرائط التنمية في بلادنا، فسوف نلاحظ كتل سكانية صغيرة العدد، ومُنعزلة عن مراكز الخدمات الأساسية، قد أوصلت لها الدولة الخدمات الأساسية، من طرق مسفلتة وكهرباء وماء وتعليم وصحة .. إلخ فكيف تكون الاستجابة جزئية ومحدودة وخجولة لسكان الحلانيات؟ كما أن مبدأ المساواة بين المواطنين، يطرح نفسه هنا بقوة، فكيف صرفت الحكومة تلكم المليارات على إقامة بنية تحتية لربط المُحافظات ببعضها، والمحافظات بولاياتها، والولايات بنياباتها، بينما تتجمد هذه السياسة في الحلانيات بحجة الربحية المالية؟
كنَّا نتوقع بعد الحملة الصحفية القوية لصالح معاناة الحلانيات، وبعد تفاعل جهات عليا معها، أن تشكل لجنة حكومية لحل هذه المعاناة على وجه السرعة، وليست الاستجابة الجزئية من شركة العبارات التي رمت الكرة في الملعب الحكومي، فمن المسؤول عن إدخال التيار الكهربائي لميناء الحلانيات الجديد؟ ومن المسؤول عن استكمال ميناء حاسك؟ أليس الجهات الحكومية؟.
وهذه الأساسيات من البنية التحتية، تقول عنها شركة العبارات إنها تتوقف عليها عودة العبارة السريعة لنقل الركاب، وهذا النوع من المواصلات له بعد أو حاجة اجتماعية مُستدامة، فلربما يكون هناك مريض يستدعي نقله لليابسة على مدار الساعة وعلى وجه السرعة، فهل تنتظر هذه الحالة حتى حلول موعد العبارة الشهري أو لظروف الطائرة العمودية؟ وربما يكون للمواطنين معاملات ينبغي إنهاء إجراءاتها في صلالة، فهل يذهب المعلم أو الموظف إلى هناك، وينتظر موعد عبارة الشحن الشهري؟ هذه مجرد أمثلة، تدلل على أهمية عبارة نقل الركاب السريعة، والتسليم بفكرة العبارة الشهرية للشحن، نجده استمرارا لفكرة الطائرة العمودية الأسبوعية، وهذا طبعاً لن يخدم التنمية في الجزر ولا سكانها، وسيكرس الشعور بالغربة داخل الحدود الوطنية، فهل تشكل هذه الجزر هذا العبء الكبير على الجهات الحكومية؟.
وبما أنَّ الكرة لا تزال في ملعب الجهات الحكومية التي أنيط بها خدمة الوطن والمواطن، فإنَّ تلك الاستجابة لن تكون في مستوى الحد الأدنى من تحقيق مطالب الجزر الأساسية، وبالتالي، فإنِّه يقع عليها لزاماً العمل فورًا في استكمال مثل تلكم الجوانب الفنية لعودة العبارة السريعة، وعليها كذلك تحديد أقرب فترة زمنية ممكنة لاستكمال بناء مشروع مكرمة مستشفى الحلانيات، فإذا ما ظل وضع عبارة الشحن قائمة، مرة في كل شهر، فكيف سيتم إحالة الحالات المرضية العاجلة في الوقت المناسب في ظل النواقص الطبية؟ وحتى لو كانت عبارة الشحن متاحة، فبطئها لن يخدم عامل السرعة التي تحتمها الحالات المرضية الطارئة، وكذلك الحاجة المجتمعية تحتم استكمال مشروع مصنع الثلج، وإرسال فريق تفتيش متعدد الأغراض لتطهير الجزيرة من المُخالفين والهاربين.
ومن المؤسف أن الخلاف لم يحسم حتى الآن بين وزارتي النقل والاتصالات والزراعة والثروة السمكية بشأن الصلاحية التبعية لميناء الحلانيات، وهذه إشكالية كبيرة، ويبدو أنها ظاهرة، فقد لمسنا ما يشابهها في صلالة في قضية المرافق الصحية لمشروع تطوير محلات المضابي السياحية، فهناك خلاف مُماثل في تبعيتها بين وزارة السياحة وبلدية ظفار، وبسببه أي الخلاف، لا تزال هذه المرافق الصحية مغلقة رغم حاجة السياح والزوار اليومية لها، وهذه الوضعية تثير استياء المواطنين والسياح.
إن جزر الحلانيات تستحق أكثر مما تطالب به الآن، ومن بينها مدرج لنزول الطائرات الصغيرة، خاصة وأنّ هذه الإمكانية ستكون متوفرة بعد تدشين طيران صلالة الداخلي، وقضية المدرج، كانت في صلب اهتمام سلاح الجو السلطاني، وبفضل جهودهم خصصت الجهات الحكومية المعنية (2) مليون ريال له، لكن عندما نزل المشروع إلى الأرض، تعقدت من حوله الأمور، وعقدتها المصالح المالية، وارتفعت التكلفة.
من هنا نطالب سلاح الجو السلطاني العماني – مشكورا – بإعادة فتح هذا الملف الهام وتحريكه، لدواعي الوطنية، كما دعم الحكومة أهالي الحلانيات في شراء عبارة سريعة، وإدارتها عن طريق شركة محلية مُساهمة خاصة بهم، إذا كانت النظرة الربحية طاغية على الشركة والجهات الحكومية، ويقيناً أن هذه العبارة ستكون مربحة على خط صلالة الحلانيات أو حاسك الحلانيات، حيث سيكون هناك إقبال على زيارة الجزر خاصة أيام العطل الأسبوعية والمناسباتية، وبذلك نخلق التفاعلية والفعل الذاتي مع المنفعة الخاصة لسكان الحلانيات الذين يستحقون منا الكثير لدورهم التاريخي في الحفاظ على جزر الحلانيات الخمس ومقدراتها، كما أن إستراتيجية هذه الجزر وتاريخيتها ومستقبلها السياحي تحتم وضعية إدارية خاصة تُعطيها ديناميكية التَّعاطي مُباشرة مع المركز في صلالة.