الربيع العربي قراءة نفسية

 

علي بن مسعود المعشني

 

داهمنا الربيع العربي في عام 2011م بغتة وعلى حين غرة وبدأ – وكما هو معروف – بما يمكن أن نسميها بالخواصر والبؤر الملتهبة والمرشحة للانفجار مصر وتونس، حيث بلغت العفونة السياسية مدى لا يطاق ولا يحتمل ولا يمكن السكوت عليها. ففي مصر تطورت الدولة من الانفتاح الاقتصادي غير المدروس في عهد الرئيس السادات والذي ألهب المعيشة على المواطنين وتسبب في ظهور لوبيات الفساد وتفشي الفقر والبطالة إلى أرقام قياسية، إلى مرحلة اقتصاد السمسرة حيث أصبح مصير مصر بيد شلة تبيع وتشتري مقدرات الوطن وبمباركة النظام وحمايته وديمقراطية صورية شعارها "قل ما تشاء وأنا أفعل ما أريد".

وتونس - وكما هو معلوم - دولة أنهكتها القبضة البوليسية غير المبررة على الإطلاق، مع التدخل السافر في خصوصيات التديّن للناس إلى درجة تصنيف الناس على النوايا وإقامة شعائر الإسلام، وزاد عليها الفساد العائلي المحمي من قبل النظام والذي تجاوز كل حد وفاق كل طاقة صبر.

من الطبيعي جدًا أن يتألم الناس ويصرخوا بصوت عال في هكذا مناخات قمع وفقر ومعاناة وهدر كرامة وانتهاك حقوق طبيعية وحرمات مصانة بالشرع والقانون والأخلاق، في زمن الفضاء المفتوح وتلاقح التجارب البشرية بلا حجب أو تورية.

بعيد انتفاضتي تونس ومصر بشهرين تقريبًا وقبل تدخل الأيدي الخفية ومصادرتها لحقوق الشعوب في الحراك السلمي ومطالباتها بالإصلاح وفق مصالحها وممكنات الأوطان ومقدراتها وبإرادة وطنية خالصة، رصدت بعض التقارير والبحوث النفسية – رغم شحها وندرتها – تتحدث عن تراجع نسب أمراض الاكتئاب والقلق والتوتر العصبي بين أفراد الشعبين المصري والتونسي، بل وتراجع نسب المتعاطين لأدوية الاكتئاب بنسبة 60% ومرد ذلك إلى شعور الناس بالمستقبل والحرية وبوادر الإصلاح والمشاركة في رسم السياسات وتقرير المصير.

مما يدل على أنّ هذه الأمراض السيكوسوماتيك أي الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي كالقرح بأنواعها والقولون والضغط والسكري والشرايين والناتجة بالدرجة الأولى عن الضغوط المعيشية والحياتية يضاف عليها الأمراض النفسية أعلاه، هي أمراض ناتجة عن معاناة العقل الجمعي للشعوب والمجتمعات وينفرد بها ذوو الشعور المرهف والحس العام والغيورين على الأوطان وذوو الضمائر الحية مهما بلغت مراتبهم أو تصنيفاتهم الاجتماعية أو العلمية. فلكل عظيم قلبان، قلب يتأمل وقلب يتألم، وكما يقول الأديب والفيلسوف جبران خليل جبران.

لا شك أن مآلات ما سُمي بالربيع العربي كانت سيئة ومخيبة للآمال بالتغيير والإصلاح الهادئ والسلمي وولوج عصر وطور منير ومضيء لدولة الاستقلال العربي بعد حقب الدموية والانقلابات وبيان رقم واحد، والتي أورثت الأحقاد وأسست لثقافة الثأرات والتشفي والكيدية والتربص، رغم ضرورات بعضها وصدق نوايا البعض الآخر و وطنيّته.

كنا قبل الربيع نردد ما صدقناه وسمعناه من المنظرين الثوريين بأنّ الفقر والتهميش والبطالة والقمع وصفات جاهزة لثورات شعبية، واليوم تيقنا بأنّ هذه الحالات والظواهر بالكاد تكفي لتفجير انتفاضات شعبية محدودة الأثر والمطالب، لأنّ الثورات لا يفجرها الفقر بل يفجرها وعي الفقير وكما قال عالم الاجتماع كارل ماركس. فالثورات – عبر التاريخ - مشروعات وأهداف وبرامج وطنية لا يفجرها الظرف ولا يقوم بها الغوغاء ولا تديرها الأيادي الخفية ولا تعبث بها الأفكار المستوردة.

فجميع من خرجوا للشارع في الوطن العربي للأسف الشديد لا يعلمون ماهي الخطوة التالية بعد إسقاط النظام، ولا يملكون أي تصور للدولة التي يريدونها ويطالبون بها، ولا معنى غياب الدولة وضريبة ذلك الخواء على الدولة والمجتمع، بل وأغلبهم لا يفقهون حتى معاني ومدلول المصطلحات التي ينادون بها من حرية وديمقراطية وعدالة ودستور تعاقدي، ناهيك عن الممكنات المتاحة والموضوعية لتحقيق تلك الأماني على أرض الواقع من وعي ومقدرات بشرية وطبيعية.

اليوم فقط أدرك العقلاء الفرق بين الغوغائية والثورات والمشروعات الوطنية والمؤامرات بأدوات ناعمة، واليوم فقط أدرك العقلاء نعمتي العقل والوعي لدى الشعوب لتعتصم بأوطانها في اللحظات الحرجة وتلتف حول مقدراتها ونفيس موروثها ومكاسبها لتبني عليها بدلًا من الانتقاص منها والعودة إلى المربع الأول والقضاء على الظالم المزعوم والإبقاء على منظومة الظلم والانقضاض على الطاغية المزعوم مع الإبقاء على منظومة الطغيان.

جميع الشعوب العربية التي مرّ عليها الربيع المشؤوم تتمنى اليوم العودة إلى زمن الجلاد الأول والظالم والطاغية الذي أطاحت به ليس حبًا فيهم بل بغضًا في مفردات الربيع ومخرجاته البائسة وذكرياته الأليمة وتفاصيله المرعبة.

فمن أسوأ الظروف والحالات في حياة الشعوب أن تتباكى على زمن توفر المسلمات الطبيعية لأي إنسان في أي دولة وهي الأمن والدولة والخدمات من ماء وكهرباء وتعليم وصحة ومرتبات وكفى، وأن تكون مفاضلتك وخياراتك ما بين السيء والأسوأ. فكم كنت أتمنى أن يكون الربيع وتفاصيله مادة دسمة لعلماء النفس والاجتماع العرب لدراسته بعمق وتشريحه لتعلم الأجيال وتتعظ وأولهم جيلنا الحالي من ساسة وعوام.

قبل اللقاء: مشكلة الربيع أنّه خلط ما بين معارضة الحكومات ومعارضة الأوطان فأجهز على الإثنين معًا.

وبالشكر تدوم النعم،،،

Ali95312606@gmail.com

الأكثر قراءة