الاستثمار الحقيقي للموارد البشرية

 

حميد بن مسلم السعيدي

 

الاستثمار الحقيقي للموارد البشرية يُعد من الأهداف الأساسية للمؤسسات، بحيث يصبح الموظف قادراً على الإنتاج الفعلي خلال ساعات العمل الرسمية، ويأتي ذلك من خلال التوظيف الناجح للقوى التي تحتاجها المؤسسة، وخلالها تستطيع أن تُحقق الاستفادة القصوى من الموظفين المنتسبين إليها، إلا أنَّ مُتطلبات الوقت الحاضر تدفع الكثير من المؤسسات إلى التقليل من حاجتها للموظفين، حيث إنَّ التغيرات المتسارعة التي شهدها العالم في مُختلف المجالات، وخاصة المجالات التكنولوجية، أجبرتها على التكيف مع هذا العالم، والعمل على الاستفادة من التقنيات المُتاحة في تطوير العمل المؤسساتي، وذلك نظراً لما تتمتع به هذه التقنيات من إمكانيات كبيرة كان لها تأثير إيجابي على المؤسسة وعلى المُراجعين أو المستفيدين ومن خدماتها، حيث أسهمت التقنيات في التقليل من الجهد والوقت والإنفاق وتميزت بجودة العمل، لذا ظهر الكثير المُسميات الحديثة مثل الحكومة الإلكترونية، والحكومة الذكية.

وهذا التوجه تقوم به حالياً المؤسسات الحكومية في السلطنة، والتي تسعى إلى تقديم خدماتها بواسطة الحكومة الإلكترونية، وهي مستمرة في إضافة وتطوير خدماتها بحيث يستطيع المستفيدون منها من الولوج إلى مواقعها الإلكترونية وإنجاز معاملاتهم، ونتيجة للتطور المتسارع في نوعية هذه الخدمات وظهور الحكومة الذكية، عجل الأمر كثيراً في تحول الكثير من المُعاملات إلى الجانب التقني مما ساعد المستفيدين من هذه الخدمات على سرعة إنجاز معاملاتهم بوقت أقل وتكلفة أقل، هذا الأمر أنعكس على حجم القوى البشرية العاملة في هذه المؤسسات والتي دفعها إلى التقليل من الحاجة إليها في ضوء التطور الذي يحدث في العالم؛ لأنَّ الاعتماد أصبح بدرجة كبيرة على التقنية الحديثة.

ولكن الناظر إلى الواقع المؤسساتي بالسلطنة يجد أنَّ هناك ارتفاعاً كبيراً في البطالة المقنعة في المؤسسات نظراً للتوظيف الذي حدث خلال الأعوام السابقة دون إستراتيجية واضحة المعالم في عملية التوظيف، مما أسهم في تكدس أعداد كبيرة من الموظفين دون توليهم مهام وظيفية ذات جدوى، حتى وصل الحال ببعض الدوائر الداخلية لعدم وجود مكاتب لهم، مما يعطي مؤشرات على فقدان كبير في الاستثمار الحقيقي للقوى البشرية والتي تمَّ تدريبها وتأهيلها للعمل الوطني، ولكنها يتم تحويلها إلى طاقات جامدة تقضي أوقات فراغ رسمية مُقابل أجر شهري تحصل عليه، وهذا يمثل خسارة ليس في القوى البشرية فقط، وإنما في العوائد المادية والتي تذهب في أجور عالية تكلف الخزينة مبالغ كبيرة دون الاستفادة من هذه الطاقات في الإنتاج، وهذا لا يتفق مع الإستراتيجيات الاقتصادية التي يقوم عليها الاقتصاد الوطني في دولة لا يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين نسمة.

لذا فإنَّ إعادة قراءة العمل في المؤسسات الحكومية تُعد اليوم مطلباً وطنياً، ولا يُمكن أن تترك هذه الموارد البشرية جامدة لا تقدم أيّ عمل وطني، فهذا يُعد خسارة كبيرة في الاقتصاد الوطني، ويكلف الدولة مبالغ كبيرة، لأنَّ هذه القوى حصلت على التعليم والتدريب والتأهيل حتى أصبحت قادرة على العمل، دون أن تقدم عائدا إنتاجيا، لذا فإنَّ إعادة تنظيم العمل في المؤسسات الحكومية من الضروريات اليوم التي تسهم في معالجة الكثير من القضايا الاقتصادية، والعمل على إعادة تدوير الموظفين بين المؤسسات الحكومية بما يُتيح المجال للاستفادة منهم، أو إيجاد آلية جديدة في فتح المجال للتقاعد المبكر، أما أن نرى الكثير منهم يقضي ساعات الدوام في قراءة الصحافة اليومية وشرب الشاي فهذه ليست منهجية اقتصادية فاعلة.

والقضية لن تتوقف عند هذا المستوى فحسب، وإنما تتجه إلى زيادة التوظيف في القطاع الحكومي، نتيجة للضغوطات التي يُمارسها المجتمع من أجل التقليل من نسبة الباحثين عن العمل، دون العمل على مُعالجة القضية بأسلوب يُساعد على تطوير العائد الاقتصادي، فهناك مُعادلة تحتاج إلى إعادة التفكير فيها، وهي ارتفاع في نسبة البطالة المقنعة يرافقه زيادة التوظيف لمُعالجة قضية الباحثين عن العمل، وهذا ما يضر بالوضع الاقتصادي القائم، ولكن كان من الأجدر أن تُركز الحكومة على الاستفادة من المبالغ المالية التي تذهب كأجور في إعادة تدريب الباحثين عن العمل وتأهيلهم من أجل ريادة الأعمال بأسلوب ناجح، وتقديم الدعم المادي لهم مما يُساعدهم على توظيف تلك الإمكانيات في تطوير قدراتهم وتحقيق استثمارات اقتصادية في مُختلف القطاعات بما يتلاءم مع إمكانياتهم سواء في القطاع الزراعي أو التجاري أو الصناعي أو السياحي، فتوظيف هؤلاء الشباب في القطاع الحكومي لن يُحدث تغيراً إيجابياً على الوضع الاقتصادي على العكس عندما يمنح هؤلاء الشباب كل الدعم المادي والمعنوي تقدم لهم الإمكانيات التي تساعدهم على الظهور ومُعالجة الكثير من الإشكاليات الاقتصادية ومنها قضية الاحتكار، وقضية الإجراءات غير الفاعلة في المؤسسات المعنية بالتراخيص الإدارية، وإنهاء المعاملات والتي تأخذ جهداً كبيراً ووقتاً الشباب أكثر حاجة إليها من قضاء وقتهم في مراجعات تساعد على النهوض بالاقتصاد، فما زال الفكر الإداري التقليدي بحاجة إلى إدارة التغيير بحيث يُدرك أنَّ تأخير إنجاز المعاملات لا يضر فقط بالاقتصاد، وإنما يدفع الشباب إلى عدم العمل في المجال الاقتصادي نتيجة للعقبات التي توضع أمامهم من قبل المؤسسات المعنية بالمعاملات الإدارية.

والجانب الأخطر من ذلك أنَّ التوجه الاقتصادي بالبلد ما زال بيد رجالات الاقتصاد الذي تمكنوا خلال الفترات الماضية من بناء قاعدة مالية واقتصادية لهم، واليوم يواجه الشباب بطرق متنوعة تمنعهم من الدخول في هذا المجال، خوفا من المنافسة الاقتصادية والتي تؤثر سلباً على رجالات الاقتصاد السابقين، لذا فإنَّ على الحكومة أن تعمل على تقديم دعم أكبر لرواد الأعمال الشباب بحيث يمكنهم ذلك من القيام بأدوارهم في ظل التنافسية الاقتصادية القائمة، وهناك الكثير من المُقترحات التي قدَّمها الإعلام خلال الفترات الماضية بحاجة للاستفادة منها، طالما أنها تُعالج قضية الباحثين عن العمل، وهذا الأمر يوقف العمل على التوظيف في القطاع الحكومي ويتجه للاستفادة من قدرات الشباب في دعم الاقتصاد الوطني من خلال تبني مشاريع المؤسسات المتوسطة والصغيرة، بدلاً من قضاء أوقات فارغة فوق مكاتب إدارية لا تنتج عملاً يخدم الوطن.

 

Hm.alsaidi2@gmail.com