أمة "بيانات وخطب"!

هلال بن سالم الزيدي

من على منصة إطلاق قذائف العِبارات تتشكّل إيقونة النظريات.. وعبرها يُعلن النفير، ومن بين الحشد يظهر بهيئته وهيبته، فيتردد صوته مجلجلا، لتخترق عباراته سكون المكان، لكنها ما تفتأ أن تتكسر عند جدران تلك القاعة أو عبر أسلاك التقنية.. فتتفتت في فضاء يعج بالمتناقضات فيكون تأثيرها محدودا أو وقتيا، ليتحول المكان والزمان بعدها إلى "مُكاءٍ وتصديةٍ" فينتشي جذلا غارقا في وحل المديح الذي يجعله ينسى ماذا قال؟ ولماذا قال؟ والعبرة مما قال؟ لتكون أقوالنا بعيدة عن الواقع، ولا يمكن حتى إسقاطها عليه، فهي تُشبه لعبة الأطفال عندما تثير جلبة وضجيجا، لكنها تنتهي بعد ضمور "بطاريتها".

ربما يتفق البعض أو الجميع بأننا "أمّة" بيان وخطب وشعارات، وربما يستغرب الآخرون كيف تتبلور لدينا مَلَكَة صياغة الخطب والبيانات (جمع بيان)، والطريقة التي ننتهجها في شحذ القامة من أجل قراءة تلك "الشعارات"، ولعل البعض يعيش في حالة من الخوف والارتباك قبل ظهوره ليلقي ما في تلك الورقة.. "فألقى ما فيها وتخلى"، لذلك فالشكل الذي نظهر فيه هو الغاية والهدف، والصورة البصرية كما يطلق عليها مهيبة، ووقع الكلمات له دوي يقترب من دوي المعارك عندما تتجسد في فيلم هوليودي أو بوليودي.

إنّ الأقوال التي تتكوم في فضائنا المفتوح، والمغلق ما هي إلا كالمزمار الذي لم ولن يُطرب، وكثير منها إنّ لم يكن "جلها" نشاز يؤثر على طبلة الأذن فيقودها إلى فقد حاسة السمع، ومنها تنتهي لغة التواصل وتتحطم، فيكون التفكير مركزيا من قبل ممن يمتلكون ميزة "الحِل والعقد" فتبدو القرارات تعسفية لا يمكن مطابقتها مع احتياجات أولئك البشر الذي يضمهم محيط واحد، وعليه تسير الخطط والاستراتيجيات في خط نظري يضعه الجزء من أجل الكل، وتسير القافلة إلى حيث سراب يحسبه الضمآن ماءً.. لأننا نتقن فن الإلقاء، وحبك الشعارات.

إنّ المتأمل في الواقع الراهن يلحظ وبقوة سيطرة الشعارات والبيانات على كل مفاصل المجتمع، حيث أوغلنا كثيرا في الاهتمام بالظهور من أجل سد فجوة النقص لعدم وجود حوار مشترك تُحتَرم فيه المبادئ التي تسمو بقيم المجتمع في مختلف الجوانب الحياتية، لذلك كانت تلك البيانات والخطابات مجرد غاية يصل إليها أصحابها من أجل تسجيلها في "روزنامة " التاريخ، دون أنّ يكون لها صدى في إحداث تغيير في سلوك أو معالجة أخطاء جسيمة سيكون وقعها مكلفا على الأجيال الحالية والقادمة، لذلك تبددت الثقة بين المتحدث والسامع حتى أصبحنا لا نهتم بما يقال أو ما يبث، لنصل إلى درجة السآمة من كثرة ما تتقيأ به مختلف الوسائل فتكون العبارات طنّانة في شكلها، وخاوية في مضمونها.

أتساءل كثيرا: أين تذهب تلك البيانات؟ ومن هو المسؤول عن تفعيلها في أطر قانونية مجتمعية"وطنية"؟ وكيف يمكن أن نستخلص منها العبر، أو من هو الذي عليه أن يقف عليها؟ وإلى أي مدى تكون تلك البيانات مؤشر لتفعيل المشاركة بين مختلف مؤسسات المجتمع؟ وما هو واجب الفرد/ المؤسسة/ تجاه ذلك الحشد المعرفي؟ في مقابل ذلك هل تُشكّل تلك البيانات تهديدا لأشخاص أو مؤسسات؟ وهل أصبحت تستغل لاستمالة الرأي العام مثلا؟ وهل يمكن أن تنحرف في مسارها لتصبح فيما بعد مجرد أدوار تؤدى وتنتهي بإسدال الستار؟

إنّ الاختلاف الصارخ الذي يتضح جليا في معظم مفاصل الأمة يقودنا إلى فقد الثقة، والرضوخ لسلطة القوة المبنية على قوة المنصب ليس إلا، وبالتالي لا نستطيع تفعيل المشاركة التي كتبناها في مختلف الدساتير الوضعية، وإنما نكون مجرد حلقة ضعيفة لا محل لها من الإعراب ويمكن الاستغناء عنها متى ما قرر أولئك الذين يفكرون بالنيابة عنا، كونهم يرون ما لا نراه، حتى يفصّلوا لنا ملبوسنا الذي يتناسب معهم، حتى وإن بدى مقحما لا يمت بأي صلة إلى أجسادنا التي أنهكتها تلك التصرفات.

ليعلم الجميع أن المنابر لم تعد تؤثر في مجريات الحياة، وما هي إلا تنفيسا لمن أصابته غصة "الأنا" وأراد أن يظهر نفسه بأنه عالم زمانه، وتمددت لديه الرغبة في أن يكون ذا صيت اجتماعي يحقق رغباته التي غلفها بحاجات المجتمع، لذلك ومهما ثارت الكلمات فإننا نؤمن بأنها ستتحطم على جدار الواقع ولا يمكن أن نتعلق بها أو نعلق عليها آمالنا، وحينئذ علينا أن نوقف جماح سقف التوقعات من فائدة تلك البيانات التي تفنن أصحابها في نظمها شعرا ونثرا.

همسة:

نحن أمّة تتحدث كثيرًا.. وتركّز على تنميق العبارات لتغرق في وحل التكلف، ليكون الناتج "فاي"، ومعظمكم يعرف ماذا يعني "فاي" في الحروف الإغريقية.

abuzaidi2007@hotmail.com