النمر والضِباع

راشد حمد الجنيبي

في بوتقةِ الخيال سُردَت روايات كثيرة رسمت مدى أوسع وأعمق للفكر، وحاكت واقع الأيام من عدة زوايا بشخصيات خيالية، بل أحيانا تجسّدُ الروايات واقعاً حقيقياً على شكل رواية، جُعلت بالروايات حيوانات كالثعالب والأسود شخصيات تمثّل الواقع كــ"كليلة ودمنة"، بل حتى من الجان صنعت شخصيات تمثل وتنتقد شيئا من الواقع كرواية "حوجن"، لعلّ هذه المقدمة تفكّ شيفرة العنوان "النمر والضباع" ولعلها توضِّح ما بين السطور.

في عام 1894 أُصدِرت رواية "كِتابُ الأدغال" لمؤلفيها فيل هاريس وسبستيان كوباك، قصتها طويلة وشملت شخصياتها عدة حيوانات كالذئاب والدواب والطيور وغيرهن، في الرواية من تسيّد الغاب وتزعّمه هو النمر "الملك، الرئيس، الزعيم" وله عدة أعوان، من ضمنهم الضبع! وأهم ما يُميز شخصية الضبع والضباع الذين معه أنه متواطئ مع النمر ومصّفقاً له ولاعقاً التُربة التي تطأ عليها أرجلُ النمر، متقرّبا مِنهُ ومتباركاً برؤياه ومهللاً بزئيرهِ، يبعضُ كلَّ من ينتقِصُ من شأنِهِ أو حتى ينتقده لأن رأس ماله ومعيشته مبنيٌّ على ثنائه على النمر، ويبتسِمُ لكلِّ مدّاح للنمر.

 

لو تأمّلنا الضباع قليلاً وبحثنا عنهم بيننا سنجِدُ الكثير الكثير من الضِباع، لكن الفرق كما يقول مِكيافيلي في كتابِهِ "الأمير" أن الحيوانات تتقاتل بالقُوة الحسِيّة أما البشر فيتصارعون بقوى القانون، أو تتقاتل بخفاء بمفهوم "القوي يأكل الضعيف". فلكلِّ زعيم متملقون، ولكل مدير قبل الإنجاز مصفقون، ولكلِّ رئيس ما يَهنئ أن ينتهي من عمله حتى تسمع له أغانٍ يغنيها له المطبلون، رقابهم طويلة كالضباع ليكشِّروا بابتساماتهم للرئيس، ألسنتهم متدلية كالضباع ليمدحوا حتى مَشيَةَ الزعيم، أيديهم أيضاً كالضباع طويلة للمد بالطلبات بكلّ وقاحة خصوصاً في المؤسسات الغنية، وأيديهم أيضاً خفيفة للتصفيق أكثر بكثير عن العمل وإتمام واجباتهم، النمر يحبهم ويقرّبهم إليه ودائماً يؤيهم.

وإن حاوَل مسكينٌ مزاحمتهم في رزقهم على نفس النهج، بعدما كان بارعًا وشريفاً في عمله، وبعد ما رأى سياسة المدير النمر في مؤسسته، وأن الضِباع الفارغة دائماً ناجحون، إن لم ينتبه من البداية لقرف الضِباع ويخرج بشرفه بالاستقالة، يضيّق عليه الضِباع حتى يكفّ عن ذلك، ثم ينهشونه نهشاً حتى يستسلم ويُركَل بالتقاعُد. تماما كقصّة الديك المؤذّن الذي أتاه المزارع (أو الضبعُ في هذه الحالة) وقال له: لا تؤذن وإلا نتفتُ ريشَك، فخافَ وظن أنَّ ديوك الحي (الموظفين الآخرين) لن تقصّر بالأذان، فيرجع الضبع ويُهددهُ بنتفِ ريشه إن لم يُقاقي كالدجاج فالتزم الديكُ بأمره، فأتاه الضبع أخيراً ليُبلغهُ إن لم يبض كالدجاج سيُذبح "سيصدر أمر فصله" بكى حينها الديك وقال: ليتني متُّ وأنا أؤذّن "ليتني استقلتُ بمبدأي قبل أن أسلُكَ هذا الطريق".

لم يجد الديك أو هذا الإنسان العامل البيئة الصلبة الآمنة التي تؤيه وتؤمّن مستقبل آمن له ولرؤية ومستقبل البيئة، لم يجد في البيئة أنها  تستنشِقُ عبير تنقيح الكفاءات وانفصال السلطات، بل كانت تتنفس بدخان المحسوبية والمحاباة التي تخنق خزينتها. كانوا يقولون لنا قديمًا في القصص ضباعٌ يركبها ساحر لكن في واقعنا هناك ضباعٌ سحرة، ضباعٌ فارغة الرؤى لا تشبع وهم سبب تأخّر التقدّم الشامل للمجتمعات والإنجازات وسبب اختناق رؤية المشاريع التقدُّمِيّة. فكثيراً ما تحاك بالخيال روايات عظيمة أبطالها الجن والحيوان، وأحياناً كثيرة تُسرَد فيها حقائق ووقائع خفّية بين السطور عن الواقع بيننا، ضحكاً أو سخرية أو خوفاً أو عِظة.

تأمل الضِباع مِن حولك صدقني ستجد الكثير!!