في مقهى الفتوّة (1-2)

محمد العريمي
يونيو 2008.. كنّا في الصيف، والفصول في مصر كما يقول العجوز رفعت إسماعيل بطل روايات (ما وراء الطبيعة) الأصلع النحيل الذي يُدخِّن كقاطرة قديمة، والشبيه بدودة الإسكارس" تتشابه، وقد تختلط، ولكن شيئاً واحداً يميّزها هو الرائحة.. رائحة الأسفلت المبتل في الشتاء، رائحة حبوب التفاح وزهور البرتقال القادمة من أرض محروثة في الربيع، روائح العرق وأنسام الليل الرحيمة في الصيف". كُنّا في الصيف، حيث الأنسام التي تهُبّ عليك من المجهول تُدغدغ مشاعرك كما تُدغدغ أمٌ رؤوم طفلها، وتفتح في داخلك كتاباً من الذكريات يعجز هرقل عن حمله، ويقسم تايسون أنَّ هناك قوّة هائلة تمنعه من محاولات غلقه. وحيث اقتراب موعد العودة إلى الوطن نهاية كل عامٍ دراسيّ محمّلاً ببعض الهدايا، وكثيرٍ من.. الشوق واللهفة.  
 كنت لا أزالُ في شقّة جسر السويس التي سأغادرها بانتهاء الفصل إلى بقعة أخرى في مُحاولاتي المُستمرة لاكتشاف كل شبرٍ في المحروسة كعهدٍ قطعته على نفسي في أوَّل يوم داست فيه قدماي تراب القاهرة، حيث أحمد موظّف هيئة الاستعلامات السابق ووكيل الشقّة الحالي ما زال يتردّد على شقّتي كل مساء كفرسِ نهر، وحيث صبحي صبيّ فرن العيش الذي ينتظرني بعد الساعة الواحدة ليلاً لتسليمي حصّتي اليوميّة من عيش الفينو الساخن ومعمول العجوة بالسمسم بعد أن يكون قد طاب واستوى، وعمّ مجدي الحلاق الطيّب الذي كلّما رأيته أتذكّر السّاعي في مسرحيّة "شاهد مشافش حاجة" وحواره الشهير مع عادل إمام و "خد.. بالك من نفسك"، وعمّ عبده (سكيوريتي) الأمن الطيّب بقميص الشركة الأزرق الفاتح كزرقة ماء النيل عند مُغادرته للمنبع قبل تحوّله إلى السواد قرب المصبّ، وابتسامته الصافية كنقاء شاشة إل أي دي برغم ظروفه القاسية كمزاج مراهقة، السوداء كقلب الكافر، و(ماهيّته) التي قد لا تكفي لتغطية أجرة انتقاله اليوميّ من مصر الجديدة حيث يعمل إلى شبرا الخيمة حيث يسكن، وحيث محمود الشاب العشريني خريج الجامعة العمّالية الذي يُعاونه في مهمّة حراسة البناية بعدما فقد الأمل في وظيفة تليق بمسمى الجامعة التي تخرّج فيها. الجامعة التي راهن عليها عبد الناصر لتخريج أجيال من العُمّال المهرة عندما كانت هناك مصانع وانتهى بها الحال إلى (أنتيكة) تزيّن شارع النصر وتنفث سيارات النقل والسيرفس والملاكي بعوادمها السوداء في واجهتها كل ثانية، والتي كان يمكن (وهبها) لأحد الحيتان كي يحوّلها إلى برجٍ سكنيّ عالٍ، أو مقر لإحدى شركاته لولا بعضٌ من حياء. في كل مرّة ألمح مبناها وأنا في طريقي راجلاً أو راكباً إلى شارع عباس العقّاد أو مول سيتي ستارز القريب كنت أسأل نفسي: متى سيأتي اليوم الذي يحنّ فيه قلب أحدهم على مرايا المبنى ويقوم بتلميعها وإزالة أطنان الغبار والسواد المُتراكم! شقّة جسر السويس حيث البن البرازيلي، وأولاد رجب، وحاتي الحرّيف، وإشارة الطاهرة، وقصرها الشهير، وميدان النعام، وميدان روكسي، والعبّودي، وأشياء كثيرة جميلة ما زالت بقاياها تعلق بالذاكرة كذكريات طفل، أو كبقايا بنّ عبد المعبود الشهير في فنجان قهوة سوداء مضبوطة بجروبّي مصر الجديدة.
كنت في شقّتي صباحاً وهي من المرات النَّادرة التي أصحو فيها مُبكّراً ما لم أكن مرتبطاً بموعد دراسيّ أو اجتماعيّ ما، فمن ذا الذي يتهوّر وينام مُبكراً تاركاً ليل القاهرة الصيفيّ حيث المقاهي المفتوحة التي تختلط فيها ضحكات الصبايا المائعة بنكهة المُعسّل وكليبّات قنوات ميلودي ومزّيكا، أو أغنية (الأماكن) التي تُعاد 657894 مرّة في الكافيهات التي يرتادها (الخلايجة) والعرب، وحيث الشوارع التي تظلّ ساهرة حتى مطلع الفجر، وحيث جلسات البلكونة التي تحلو صيفاً مع (شقّة) بطّيخة مثلّجة، وبرّاد شاي أحمر، وصوت كلاسيكي من بقايا الزمن الجميل.    
وبينما كُنت أتلذّذ بارتشاف كوب الشاي بالفتلة وقراءة (الدستور) جريدتي الأثيرة وقتها قبل أن تتحوّل إلى صحيفة شديدة الإصفرار تصلح لكلّ شيء عدا القراءة، شدّني خبرٌ عن مقاهي الحسين في زاوية كانت الجريدة تخصّصها للتعريف بالمقاهي والأماكن التي تصلح للزيارة في القاهرة، وهي الزاوية التي اتخذت منها في تلك الفترة دليلاً لزيارة العديد من المقاهي والأماكن التي كانت وقتها في عداد المجهول بالنسبة لمعلوماتي عن خبايا القاهرة. هنا قلت لنفسي: إنني قد زرت القاهرة الفاطميّة ليلاً ملايين المرات قبل اليوم، وأكاد أحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الأحداث الليليّة هناك، وأسماء صبيان مقاهيها، وملامح متسوّليها، فلماذا لا أُجرّب زيارتها نهاراً، فلعلّي ألمح بشراً آخرين يختلفون عمّن رأيتهم هناك على مدى تلك الزيارات، ولعلّي أعيش أحداثاً وتجارب تختلف عن تلك التي عايشتها ليلاً! ولا بأس من جلسة جميلة تنعش الذكريات في قهوة الفيشاوي.
وكأنِّي لم أكذّب خبراً، فما هي إلا دقائق كنت قد انتهيت خلالها من ارتداء قميصي الأخضر المُشجّر الذي ابتعته ذات نهارٍ أغبر من أحد المحلات الصغيرة المنزوية في حارة من حارات المُهندسين، والذي يذكّرني بسيّاح هاواي، فقط شورت ضيّق، ونظارة سوداء، وسيجار كوبيّ ضخم ويكتمل المشهد!.
(أخذت بعضي) في طريقي الذي حفظته رجلاي عن ظهر قلب كحفظ طالب نحوٍ مدرعمٍ لألفية ابن مالك، إلى محطّة سرايا القبّة القريبة مخترقاً شارع جسر السويس، فميدان سليم الأوَّل، حتى وصلت إلى المحطة موزّعاً سلاماتي وتحيّاتي هنا وهناك. يعشق المصريّ النُّكتة والابتسامة والفرفشة والمُناقشة والمناغشة كما يعشق الياباني عمله، وسيردّ على تحيّتك بأفضل منها، وعلى ابتسامتك بأعرض منها، وعلى نكتتك بأسوأ منها، و(تفضّل معانا شاي)، لكنّه قد يكرهك كما يكره المقدسيّ الصهاينة لو قابلته متجهّماً مكشّراً، فالمصري قد يستحمل الضنك وضيق الحال، وقد يتقبّله بصدرٍ رحب، لكنّه لا يتقبل ثقلاء الدم وأصحاب (السِّحَن) الضيّقة!.
أنزل في العتبة حيث (سرّة) القاهرة ومنتصفها، وحيث أكبر كميّة من البشر يمكن أن تراها في حياتك، ومنها أسير راجلاً باتجاه شارع الأزهر حيث محطّتي الأخيرة في قلب المشهد الحسينيّ وسط سيمفونيّة من أصوات المطارق النحاسية، ورائحة البهارات والتوابل، وسباب سائقي التكاسي لبعضهم البعض، متسلّياً بمحاولة استحضار تاريخ المكان المحيط حيث الموسكي، وحارة اليهود، والغوريّة، والدرب الأحمر، والباطنيّة، والمشهد الحسيني، ودرب البادستان، والصنادقية، وسوق التبليطة، وشارع ربع السلحدار، والمقاصيص، والصالحية، وخان جعفر، وأم الغلام، والحمزاوي، وأماكن أخرى كل حجرٍ بها شاهدٌ على حقب، وأحداث، وشخوص عديدة عجنت تاريخ المكان بفكرها وثقافتها حتى غدا خليطاً عجيباً أو مكبّاً لتفاعلات تلك الثقافات المتباينة!.
أصل أخيراً إلى الحسين وأقترب من الخان، وألامس المئذنة الشامخة، وأشم رائحة عبق البخور القادم من زقاق قريب، وهنا ستكون لي حكاية. ويا لها من حكاية!.