عودوا إلى أوطانكم


عزيزة راشد
هاجر امرؤ القيس من موطنه إلى بلاد الروم، وعانى الغربة والوحدة والحزن، عندما شعر بأنه يحتضر، رأى قبر امرأةٍ من أبناء الملوك هناك، قد دُفنت في سفح جبلٍ يقال له عسيب، فسأل عنها، فأخبروه بقصتها فقال:
أجارَتَنا إنّ المزارَ قريبُ
                  وإنّيْ مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ
أجارتَنا إنَّا غريبانِ ها هُنا
                 وكلُّ غريبٍ للغَريبِ نَسِيبُ
ثم مات، فدُفن إلى جانب المرأة، ولايزال قبره هناك.
الغربة مرة وصعبة وقاسية، حزنها متناسل ووحدتها سقيمة وليلها طويل، تصدأ الروح إن تعاقبت عليها الأزمنة، ويكمد القلب وينطفئ بريق الأمل وشموع الفرح، تبقى وحيدا رغم أمواج البشر، تظل أطياف الوطن تحيط بك في غربتك.
رغم المقهى الجميل والورد المبتسم في الحدائق والقهوة اللذيذة الساخنة في صقيع الغربة إلا أن الروح تسألك وماذا بعد؟ ورغم واجهات المحال اللامعة والشارع المزخرف والنسيم العليل والمسير المريح، إلا أن صوتا من داخلك يسألك إلى أين؟
تدخل إلى محلات ذات وجهات زاهية وتمشي على أطراف بحيرة أمواجها هادئة تقف فيها البجع بكل حنان يداعبها نسيم عليل وخضرة جنة وهدوء ساكن، إلا أن كل هذا يصرخ في وجهك من أنت؟
يصادف الوقت أن تلتقي بأصدقاء مشتتين، تتبادل معهم حديث الوطن والشتائم، ثم ما تلبث أن تأخذهم الحياة عنك بعيدا، بعضهم يركن إلى أسرته والبعض الآخر يعود إلى وطنه، وحدك أنت تبقى كالإنجيل لا يرتل سوى في الكنائس وعند الموت، تقف كعلامة تعجب على مفترق طرق الحياة، تتجنب سؤال ملح يفاجئك بخشونته: هل ما قمت به يستحق كل هذا الشتات والبعثرة؟
غريب في بلاد غريبة، مسافر دون حقيبة، باحث عن حياة سعيدة، واعوام في العمر مديدة، فلا الحياة كانت على الأحلام أمينة، ولا الغربة استقبلتك بنية سليمة.
لا الأرض أرضك ولا البشر يعرفونك، ولا هذا الطين الذي لعبت فيه يوما في طفولتك، لا توجد هنا سدرة أو غافة أو أرجوحة من حطب السمر الذي كانت ضحكاتك تتهامس فيه في مساء صاخب مع رفقة مبهجة، الغربة هي رماد الروح المتهالكة على جدران سئمت الانتظار وتذكرة عودة مؤجلة للوطن.
فلنعد إلى أوطاننا التي قد نراها قبيحة، لكنها هي الستر الوحيد للكثير من أخطائنا الشائنة في حق الحياة.