عبيدلي العبيدلي
بخلاف الكثير من المشروعات الإصلاحية الثانوية أو تلك التي تحصر نفسها في دائرة ضيقة المساحة محدودة الأفق، تثير المشروعات السياسية الرائدة ذات الأفق الواسع المتعدد الأبعاد تحديات مصيرية أمام القوى المنخرطة في أتون العمل السياسي، معارضة كانت تلك القوى أم تمسك بزمام الحكم.
ومن الطبيعي أن يثير مشروع رائد بمستوى المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك، عندما حرك مياه العمل السياسي البحريني الراكدة مجموعة من التحديات في صفوف تلك القوى، سواء بحكم تهديده لمصالحها، أو تحديه لفكرها الذي تأخذ به، أو سلوكها السياسي الذي تمارسه، أو حتى طقوسها التنظيمية التي تلتزم بها.
ومن ثم فسلوك جميع الفرسان ممن اعتلوا صهوة جواد المشروع الإصلاحي، وتمايلوا فوقها صعودا وهبوطا معه، هو إفراز طبيعي متوقع، بغض النظر عن الاهتزازات الثانوية الهامشية التي عاشها من هم فوق تلك الصهوة، وكان أيضا استجابة طبيعية للتحولات التي جلبها معه المشروع الإصلاحي، والإفرازات التي حملها معه عند معالجة التراكمات التي عرفتها ساحة العمل السياسي خلال العقود التي أعقبت الاستقلال.
ومن الطبيعي أيضا أن يصطحب المشروع الإصلاحي وهو يشق طريق تثبيت وجوده، مكونات العمل السياسي البحريني، كي يضعها أمام منعطفات حادة تشكل في جوهرها تحديات مصيرية أمام القوى ذات الصفات الدينامية التي تمدها بحيوية تفتقر لها بعض القوى الأخرى.
هذا يضع على عاتق هذه القوى التي تنتمي لهذه الفئة المميزة مسؤولية تاريخية تتجاوز، بخلاف ما يعتقد البعض، ذاك الذي يشغله الحيز الظاهر منها، والذي يبدو على سطح بحر العمل السياسي ذاته. وبفضل هذا الدور الذي يفرض نفسه على تلك القوى الحية الديناميكية تجد هذه القوى نفسها أمام مسؤوليات، تفوق قدرتها الذاتية على المحاور كافة: السياسية والتنظيمية، بل وحتى الاجتماعية. بل تكتشف تلك القوى أن ما غرسته خلال السنوات التي مرت من عمر المشروع الإصلاحي، بنت دائرة من العلاقات التي تطالبها بالمزيد من التحرك الإيجابي في دوائر العمل السياسي التي رسمها المشروع الإصلاحي.
وكما أشرنا فإنّ طريق المشروع الإصلاحي ليست مستقيمة، كما أنّها ليست أحادية، بل هي ثلاثية الأبعاد إن لم تكن متعددة، وتتخللها الكثير من المطبّات التي تتطلب من يسلكها قدرة التمتّع بالمرونة المطلوبة التي تؤهله عبورها دون أن يعاني من التواءات في الأقدام أو تشوّهات في الركب، أو عيوب في العمود الفقري.
ولكي تنجح القوة السياسية التي تتمتع بتلك المرونة في تحقيق نجاحات، حتى عندما يصل المشروع السياسي عند تلك المنعطفات بما فيها تلك الممعنة في حدتها، عليها أن تتحلى ببعض الصفات التي يمكن سرد الأهم منها في النقاط التالية:
1. عدم الخضوع لما يبدو أنه مسلمات، فليست هناك مسلمات سرمدية خالدة في مشروع إصلاحي متحرك بمستوى المشروع الإصلاحي، في نطاق سياسي صغير ومحدود مثل البحرين. وهذا سلوك ينبغي أن تتمتع به القوى التي نتحدث عنها، إن هي أرادت الاستمرار في العمل السياسي، وممارسة دورها الريادي. فالقبول بما يبدو أنّه مسلمات، والخضوع له، يشيع أجواء من التشاؤم الذي يقود إلى حالة متواصلة من اليأس، وهو أخطر الفيروسات التي يمكن أن تنخر قوة سياسية لها موقعها المميز في خارطة العمل السياسي، في نطاق المشروع الإصلاحي.
2. نبذ عقلية الشعور بحصار يضيق الخناق على هذه الفئة إلى درجة الشعور بأنها تخوض المعركة وحيدة، مكشوفة الظهر، وأنّها فقدت القوى الأخرى الحليفة لها، لما فيها تلك الأكثر قربا منها. فحتى لو افترضنا صحة هذه المقولة، خوض المعركة وحيدة، لكنّها تفرز في المقابل مجالا جديدا يستقطب قوى جديدة أخرى تشكل رافعة تاريخية تنتشل تلك القوى المرنة من المخاطر المتربصة بها، بما في تلك المتحفزة للانقضاض عند المنعطفات الحادة.
3. التفكير المبدع، الذي ينطلق من رفض الكثير المداخل النمطية التقليدية للمشكلات، والبحث، عوضا عن ذلك، عن طرق جديدة مبتكرة تكون، كما يقول المثل الدارج "خارج الصندوق". هذا النمط من التفكير سيقود هذه القوى الحية إلى التفتيش عن طرق مبدعة تنسج من خلالها تحالفات من طراز جديد. هنا ستكتشف هذه القوى أنّ تفكيرها المبدع سيولد دوائر جديدة من التحالفات، بما فيها مع جهات ليس بالضرورة في الدوائر المتعارف عليها، والتي ستساعدها – أي تلك التحالفات الجديدة – على تجاوز تلك المنعطفات بأقل الخسائر السياسية والتنظيمية الممكنة.
4. رسم السيناريوهات البديلة لاحتمال واحد يتيم، يفرض حلا واحدا ربما يكون قاتلا. فوضع السيناريوهات يفتح ذهن القوى الديناميكية، ويخرجها من دائرة السكون المحبط الذي تفرضه على تفكيرها الحلول الأحادية، شريطة أن يتحاشى من يرسم تلك السيناريوهات أي شكل من أشكال التبسيطية التي تنسج دوائر سيناريوهات لا يقبل أي منها التعامل مع الواقع بالحيوية المطلوبة القائمة على تشخيص سليم يقود إلى احتمالات واقعية قابلة للتطبيق. وما هو أهم من ذلك وضع الحلول الصحيحة القادرة على التعامل مع أي من السيناريوهات عندما يغادر مواقع الاحتمال إلى حالة الواقع الملموس.
5. التحكم المسؤول المنطلق من وعي مصيري في معادلة العلاقة بين ما هو ذاتي ضيق الأفق ووطني متسع الفضاء. ففي أحيان كثيرة، وخاصة عند المنعطفات الحادة، تطغى النزعة التنظيمية الذاتية الضيقة على المصالح الوطنية الواسعة. ومن الأخطاء القاتلة التضحية بالمسؤوليات الوطنية التي تفرضها اللحظة التاريخية على التنظيمات التي تتمتع بالحيوية التي نتحدث عنها، على مذبح المصالح الذاتية ذات الطبيعة الآنية.
تأسيسا على كل ذلك، تتطلب المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق القوى الديناميكية الحية أن تهيئ نفسها لعبور تلك المنعطفات التي فرضها التطور التاريخي المنطقي للمشروع الإصلاحي، كي تتجاوزها بأقل الخسائر الممكنة، وبأفضل المكاسب المتاحة؛ كي تتحقق أحلام "الأيام الجميلة التي لم نعشها بعد".