لن تنجب أرض البحر في الشرق مثله (1- 2)

 

 

 

سارة البريكيَّة

يَحْدُث أن تتشابه مُدن البحر وتخومها حتى في أدق تفاصيلها، ولكن هيهات أن تتشابه في إنجاب مثله، أو أن يتشابه معه أحد في أخلاقه وروحه المرحة؛ فطيور النورس التي هنا، ستجدها هناك في مدينة ساحلية أخرى، ولكن التي في مدينته ستجدها قد لفَّها الحُزن على فِرَاقه؛ ذلك لأنها فقدته وإلى الأبد. والتربة التي تشبَّعت بالبحر وملوحته، وكانت آثار أقدامه انطبعتْ يوما ما عليها، أجزم بأنَّها هي الأخرى اكتستْ السَّواد وتوشَّحت به، والتربة هي ذاتها ستجدها هناك في موقع آخر، ولكن رُبَّما بلون آخر مختلف، وحيث يمَّمت شطر أي مدينة ساحلية؛ فإنَّك سترى أهلها يعملون في البحر، ولا يهابونه، مثله هو تماما في صغره، وستجدهم يخلعون فوقه تطلعاهم، ولا يُعابونه بنفس الطريقة التي كان يعملها هو، إلا أنَّ هو كان له أيضا مسار مختلف وطريق مغاير كسب من خلاله حب الناس وآلاف القلوب التي أحبته ومن ثم بكته عند رحيله.. إنَّه الفنان الكبير سالم بهوان، الذي ودَّع عالمنا منذ أيام.

كثيرون هم من يصنعون حياة وأصبح لهم البحر حياة، ولكنْ قليلون هم من يكونون لنا حياة ويهبون للغير حياة، فمن كان البحر له مصدر رزق كان له أيضا مصدر إلهام، ومن كان يتفاخر بأشيائه وبما يملك، كان هو بطلَّته البهية عندما بزغ فجر يوم مولده يتباهى بإنسانيته؛ فمنذ ساعاته الأولى من مولده، كان أهل البحر يرونه إنسانا وطفلا مختلفا وفأل خير لهم وعليهم؛ فقد شكل لهم مع البحر منذ أن وجدوا أنفسهم أهله، أهمية كبيرة في كل حين.

فمن موقعك وأنت على أديم أي مدينة مطلة على البحر، محدق صوبه على امتداد ناظريك، تقرأ أنَّ هناك حياة من نوع آخر، وتستقوي ذاكرتك على استحضار مفردات وصور من نوع آخر، فرحم الله من كان إنسانًا من نوع آخر، وشخص أحبَّه الكثيرون من مكان وفي زمن آخر.

إنَّه بقرب البحر مُمكن أن ترى الأطفال وعراكهم، وستنظر إلى حيويتهم وإلى حراكهم، ولا ضير أن ترى أجسادهم وقد حولها البحر إلى السمار، ولكن هو ولأن منبته وأصوله من أهل البحر، وعرف عن أهله حبَّهم له وشغفهم بالتجارة؛ فقد كان هو بنفسه بريقا وشعلة من نشاط وحماس، وشبَّ على ذلك حتى يوم السبت الفائت، وكان وأهله لا يأبهون غدر البحر؛ إذ إنَّهم كانوا يرونه الجار والصديق والحبيب ، بينما كان يراه هو عالما يحتوي أسراره التي لم يكن يرغب أن يقولها لبشر مثله، مُتيقنا أنَّ السر لو زاد عن اثنين شاع وانتشر.

هُنا.. يحدُث أن يكون لكل فرد منا مع البحر حكاية وقصة، وروايات الأجداد وقصص البطولات وحكايات الأشرعة والصواري والآلئ والمحار والصدف، كانت كلها تعظم في نفوسنا وتكبر حينما يحكيها لنا النواخذة والربابنة، أو أي إنسان من أهل البحر وخاصته؛ فكيف بإنسان عشق البحر واستلهم منه العطاء، ألا يجدر به أن يكون للخير والإنسانية عنوانًا، نعم هو كان كذلك، وكان يقول إن للبحر لغة لا يفهمها إلا أهله، وأن للفن رسالة لا يفهمها إلا أهله، إلا أنَّنا مطالبين بأنْ نكون بسطاء في طرح رسالتنا ليفهمها العامة قبل الخاصة؛ فكان ديدنه ذلك.

Sara_albreiki@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك