دور المدرسة في تنمية الثقافة الاستهلاكية


حميد بن مسلم السعيدي
 

العالم الذي نتعايش معه اليوم هو عالم مُتغير قائم على فكر اقتصادي بحت، هذا الفكر الذي يعتمد على السيطرة والتحكم في الثروات بما يُحقق العائد المالي، والدول المُنتجة اقتصاديًا هي القادرة على التنافسية الاقتصادية والبقاء في المُقدِّمة، أما تلك التي تعتمد على أحادية السلعة، أو ما يُمكن تسمية المُنتجات الطبيعية كالنَّفط والمَعادن، فتبقى رهينة لتحكم الآخرين فيها، لذا فما نشهده اليوم من تضارب في أسعار النَّفط وتأثيره بصورة مُباشرة على المواطن، يتطلب منِّا إعادة التَّفكير في كيفية بناء المُواطن بما يمكنه من التعامل مع الأزمات الاقتصادية، بل يجب أن يمتلك القدرات التي تُساعده على مواجهة التَّحديات المالية.
وفي ظل هذه الأوضاع الاقتصادية العالمية المُتقلِبة فعلى المواطن أن يكون أكثر مقدرة على التَّكيُف معها، بما يمكنه من الاستمرار في إدارة شؤونه الأسرية والمالية بما يُحقق غايته من العيش في ظل هذه الظروف الاقتصادية، لذا فعملية الاستهلاك الفردي والأسري تُعتبر من المواضيع المُهمة التي تشغل بال المُفكرين الاقتصاديين، لأنّه يعكس مدى وعي أفراد المُجتمع، ويؤثر على الاستقرار الاقتصادي.
 ويُعتبر الشبابُ هم الركيزة الأساسية في المُجتمعات، خاصة عندما يتعلَّق بالمجتمع العُماني الذي يُمثل الشباب النسبة الأكبر من تركيبته السُّكانية، لذا فإنِّهم أكثر الفئات تأثيرًا في عملية الاستهلاك، لأنَّهم الفئة التي دائماً ما يعتمد عليها، مما يضعهم أمام الكثير من المُؤثرات الخارجية كالدعاية والإعلام المرئي والتقني، الأمر الذي يُؤثر بدرجة كبيرة على التَّخطيط الاقتصادي لحياتهم، خاصة وأننا نعيش مرحلة من التَّقليد وحب التَّظاهر والتفاخر، والذي يكلف الفرد وأسرته مبالغ مالية كان بالإمكان الاستفادة منها في عملية الادخار والبناء الاقتصادي للأسرة، ولكن ماهي الحلول؟ وكيف نصل بأبنائنا إلى مستوى عالٍ من الوعي؟ وكيف يُمكن أن يكونوا قادرين على إدارة مواردهم المالية في ظل التقلبات الاقتصادية؟ بدلاً من التذمر دون إيجاد حلول ذاتية.
إنَّ عملية بناء الثقافة الاستهلاكية لدى أفراد المُجتمع من أهم المواضيع التي يفترض أن يتربى عليها النشء، بما يُمكنه من التكيف مع الظروف والتَّحديات التي تواجهه في حياته، وهذا الأمر يحتاج إلى عمل منهجي قائم على تكثيف العمل المؤسساتي المعني بالتعامل مع الشباب وبناء فكرهم الحديث، وتأتي المدرسة في أولويات القائمة إلى جانب المؤسسات الدينية والإعلامية والأسرية، وذلك كون المدرسة الأكثر مقدرة على التأثير لأنَّها تتكون من عدة عناصر تسهم في تربية النشء، ويأتي المنهج الدراسي كعنصر مُؤثر في الارتقاء بأفكار الطلبة من خلال ما يضمه من خبرات مُباشرة وغير مُباشرة تتمثل في المعارف، والمهارات، والاتجاهات، بما يمكنهم من التحكم في العملية الاستهلاكية، وهذا النهج الذي يفترض أن تقوم به المدرسة، خاصة وأنَّها تمتلك كل العناصر التي تُساعد على تحقيق تلك الأهداف، انطلاقاً من المناهج الدراسية والتي يُفترض أن تتضمن معارفاً تعين الطالب على التَّعرف على الأنماط الاستهلاكية وكيفية التَّعامل مع الأزمات الاقتصادية، إلى جانب معرفته بكيفية التَّعامل مع السلع والتأكد من أهميتها وجودتها، ثم يأتي دور جماعات الأنشطة الطلابية التي يُمكن أن تقوم بدور في تثقيف الطلبة تجاه المهارات الاستهلاكية، بحيث تتَّصف المخرجات بأنَّها قادرة على التَّكيف والتعامل مع كل القضايا الاستهلاكية.
إنَّ بناء الثقافة الاستهلاكية لدى الطلبة يفترض أن يأتي في أولويات التخطيط التربوي، بما يمكننا من غرس القيم الاستهلاكية والأنماط السلوكية التي تُساعد الفرد على بناء منهجية في حياته تُساعده على التَّعايش مع هذا العالم المُتغير اقتصاديًا، بحيث يمتلك المهارات المرتبطة بكيفية الاستفادة من العائد المالي الذي يحصل عليه من وظيفته أو المهنة التي يُمارسها، أو المشروع الذي يقوم باستثماره، إلى جانب المهارات المُتعلقة بالادخار ونظم الاستفادة منها في إقامة برامج واستثمارات اقتصادية تزيد من دخل الفرد، إلى جانب علاقته بالمؤسسات المالية ونظم التَّعامل معها وقوانينها الاقتصادية والنظمية، والأهم من ذلك كيف يستطيع أن يُنظم السلوك الاستهلاكي في التَّعامل من المؤثرات الإعلانية، بحيث يستطع أن يمتلك القدرة على التحكم في إدارة الدخل المادي لديه.
إنَّ المجتمع اليوم بحاجة إلى بناء الثقافة الاستهلاكية لجميع فئاته، خاصة وأنَّ الظروف التي يُعاني منها الجميع تتطلب أن يكون الفرد قادراً على إدارة موارده المالية، بما يُمكنه من الاستمرار دون اللجوء إلى الاقتراض المالي الذي يمثل عبئاً آخر يضاف إلى جانب الأعباء المُرتبطة بارتفاع أسعار للسلع الاستهلاكية، والوصول بالمجتمع إلى هذه المرحلة من الثقافة يتطلب العمل المنهجي القادر على غرس قيم الاستهلاك الإيجابية، فالكثيرُ من العادات والأعراف المُجتمعية يجب أن تتغير اليوم، بالرغم من ارتباطها بالكثير من قيم المجتمع وفضائله، إلا أنَّ الظروف الاقتصادية تحتم علينا التَّنازل عنها، فلا يُمكن أن نترك للمجتمع أن يتحكم في سلوكنا الاستهلاكي، وإنما يجب أن نكون قادرين على تحقيق التوازن بين العائد المادي وحجم الإنفاق، أما بالتأثر بما يطلبه المجتمع دون إدراك لما يحدث بعد ذلك فأعتقد أننا نقود أنفسنا إلى مرحلة ما يُمكن تسميته بالأزمة المالية الفردية التي لن يتحملها إلا الفرد بذاته.
وبالرجوع إلى المنهج الإسلامي نجد أنَّ قضية الاستهلاك قد أخذت جانباً مهماً جداً نظراً لخطورتها على الفرد، حيث أكد على مجموعة من المبادئ المرتبطة بالدخل المالي وكيفية إنفاقه بما يعود بالفائدة الإيجابية، ومن أهمها الوسطية أي عدم الإسراف الذي يُحذر منه الله سبحانه وتعالى في قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) )الإسراء: 29)، وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)) الفرقان: 67(، فالإنسان يجب أن يكون معتدلاً في إنفاقه وفقاً لحجم ما يمتلكه من عوائد مالية، بما يمكنه من الحصول على احتياجاته من الغذاء والملبس والاحتياجات الأخرى التي تُعينه على الحياة، وهذا ما يجب أن تعمل المدرسة على غرسه في نفوس النشء، فالقناعات والاتجاهات الإيجابية التي تغرس في فكر الشباب هي المحددات الرئيسة التي تؤثر في السلوك الاستهلاكي، وتعمل على التحكم في إدارة موارد الفرد المالية، والبحث عن مصادر أخرى تعينه على الحياة.

 

Hm.alsaidi2@gmail.com