عبد الله العليان
ويتبين من ذلك، كما يقول د. حسام الدين، أنّ الأمة ـ والدولة هي التي جعلت الأقليات واعية لذاتها الجماعية وكيانها الثقافي، لأنّ هذه الدولة أصلاً تتيح عدداً محدوداً من الخيارات أمام الأقليات.
وبالتالي غدت استجابات الأخيرة مُتسقة مع طبيعة تلك الخيارات، بحيث إنّ العنصر المشترك في تلك الاستجابات قد تمثل في الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية، وجعلها محوراً رئيسياً تدور حوله مطالبها السياسية وغير السياسية.
يضاف إلى ذلك، كون تباين الأقليات القومية والإثنية والدينية في تجاوبها مع سياسات بناء الأمّة إنما هو ناجم عن تباين درجة شعور كل منها بالتهديد، جاءت استجاباتها متراوحة ما بين عدم الاندماج مطلقاً بفعل شدة حساسيتها تجاه المخاطر المترتبة على الاندماج في الثقافة السائدة؛ لأنّ ذلك يتنافى أصلاً مع أنماط حياتها وتصوراتها عن الحياة، وهذه استجابة نموذجية تعبر عنها الطوائف الدينية الانعزالية، وبين البقاء داخل كيان الدولة، لكن مع تجنب الاندماج في الثقافة المهيمنة، وذلك من خلال توفير السبل أمامها للشروع في عملية بناء أمة خاصة بها، وهو ما تنتجه الأقليات القومية، وأخيراً الاندماج في تلك الثقافة، ولكن شريطة تيسير شروط الاندماج، ويجسد ذلك موقف المهاجرين.
وفضلاً عن ذلك، إذا كانت هذه الأزمة ذات أبعاد عدة ونطاق واسع الانتشار في الحياة الغربية، فإنّ الأزمة بذلك لا تتعلق وحسب بالدولة – الأمة، وإنما تشمل الحضارة الغربية بعينها، فهي ليست من قبيل الأزمات الظرفية التي تصيب الأنظمة الفرعيّة، ثمّ تزول خلال مرحلة معينة، بل هي من فصيل الأزمات الهيكلية، التي تعرف أيضاً باسم الأزمة الحضارية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية نظر شاملة، لكونها تتعلق بصميم بنية النظام الكلي الذي قد يحتاج إلى جراحة شاملة تؤدي إلى تغيير نسق القيم الذي يتكون منه؛ إذ تعمل هذه الأزمة بدورها على استنهاض البنية الفكرية للحضارة الغربية المتمثلة في الليبرالية من أجل إعادة هذا النسق إلى نصابه، وذلك من خلال توليد الأفكار الهادفة إلى احتواء التوترات ومعالجتها بما ينسجم مع كل حالة، ولعل التعددية الثقافية هي في حقيقتها إحدى تلك الآليات الرئيسية والمعتمدة في يومنا الراهن لمعالجة هذه الأزمة.
في ضوء المتقدم بيانه، كما يرى الكاتب، يمكن القول إنّ عملية بناء الدولة المتعددة الثقافات لدى أصحاب هذا الاتجاه هي عبارة عن عملية مركبة تؤدي إلى نشوء دولة ذات نظام مركب إدارياً وقانونياً. فهي عملية مركبة لكونها تتيح السبيل أمام كل من الأكثرية والأقليات القومية والسكان الأصليين للشروع في عملية بناء كيانات خاصة بها، ولكن داخل نطاق الدولة الموحدة، مما يؤدي إلى نشوء نظام مركب على صعيد الدولة ككل أم على صعيد الوحدات الفرعية المكونة للدولة، نظراً إلى وجود أقليات صغيرة الحجم في كل وحدة من تلك الوحدات، مما يستدعي أن تتعامل الأقليات القومية مع بعضها البعض على أساس القيود نفسها التي تلتزم بها الأكثرية في تعاملها مع تلك الأقليات. فالعالم الثالث لا يعيش في ظل ((الوفرة))(Affluence) حتى يكون في مقدوره تطبيق التعددية الثقافية، إذ أنّ الوفرة تعبير عن الوضع الاجتماعي الذي يتمكن فيه كل أفراد المجتمع من إشباع كافة حاجاتهم الإنسانية بصورة يسيرة، بحيث يتوجه فيه النشاط الإنتاجي بصورة متزايدة نحو إنتاج المنافع التي ليست هناك من حاجةٍ طبيعية إليها، أي الكماليات. ومثل هذا المجتمع لم يزل مجرد فكرة ترنو معظم دول العالم إلى تحقيقها، ومنها دول العالم الثالث. فالواقع المعيش في هذه الدول يكشف عن تزايد قاعدة الفقر فيها اجتماعياً، وذلك في مقابل تناقص حاد في شريحة الأثرياء. ومن ثم، بات الواقع الاجتماعي ممزقاً بين مجتمعين يعيشان تحت سقف وطن واحد: أحدهما فقير وتقليدي في نمط حياته، بينما الثاني مجتمع ثري ومتمدن يمارس نمط حياة قائماً على أحدث المعايير العصرية. هذه الازدواجية في البنية الاجتماعية والاقتصادية، كما يقول د/ حسام الدين، تعد من أبرز معالم مجتمعات العالم الثالث، وهو ما لم يدر في خلد أصحاب التعددية الثقافية. فالأخيرة من حيث كونها مشروعاً فكرياً، تستلزم قاعدة اقتصادية متسعة ومتجذرة من جهة، وبنية اجتماعية مستقرة ومتوازنة من جهة أخرى. وفي حال غياب ذلك، فإن العمل بهذا المشروع يعني تسخير موارد الدولة، على ندرتها؛ لمعالجة مشكلات هي أصلاً في غنى عنها. ثم إنّ رؤية "كيملكا" عن كيفية تطبيق وتكييف التعددية الثقافية في العالم الثالث ما تزال غير مكتملة بعد. ودليل ذلك أنّه حتى يومنا الراهن لم يستطع صياغة آليات تطبيق متكاملة، وكل ما أورده في هذا الخصوص لا يخرج عن كونها تصورات أولية، وأبرز ملامحها هو الحوار والتدرج في عملية التطبيق.
لا شك أنَّ التنوّع الثقافي ـ كما يرى الباحث ـ في هذه الدول هو تنوعٌ أصيل ومتجذّر فيها مجتمعياً وجغرافياً. فهو لم ينشأ عن الهجرة الدولية على نحوِ ما هو عليه الوضع في الولايات المتحدة وكندا مثلاً، وإنما كان موجوداً فيها تاريخياً، وتبلورَ عبر فتراتٍ زمنية جدّ قديمة حتى اتخذ هذا التنوّع صورتهُ الحالية، مما جعل الجماعات الثقافية في كلّ دولة على حدة ذات موروثٍ تاريخي وثقافي مشترك، بالرغم من تَسيُّس هذه الجماعات وتنافسها. وتبعاً لذلك، فإنَّ أصالة وجودها التاريخي والثقافي قد جعلتها ذات مطالبٍ أصيلة، وهي تكاد تنحصر – باستبعاد تأثير العامل الخارجي – في التشديد على المشاركة في السلطة والتعبير عن ذاتها الثقافية، رغم اختلاف انتماءاتها القومية والدينية والقبلية.
هذه الذَوات الثقافية التي تَطوَّرَ انسجامها الاجتماعي بتأثير الاشتراك في القيم والعقيدة الدينية، شكِّلت الموروث الثقافي في غالبية دول العالم الثالث، ولا سيما العالم الإسلامي. وهو الموروث عينه الذي تَستَنهِضُهُ المجتمعات في هذه الدول كلما تعرّضت للأزمة، سواء اتخذت الأزمة شكل الحرمان الاقتصادي والظلم الاجتماعي في ظلِّ حاكمٍ مستبد، أم اتخذتْ شكلَ تهديدٍ خارجي. وهو ما أدركَتهُ القوى الغربية حين استعمارها للعالم الإسلامي خصوصاً، والعالم الثالث عموماً، بدليل سعيها إلى تفكيك النسيج الاجتماعي لشعوب مستعمراتها من خلال تسييس التباينات الثقافية وتقسيمها إلى تكوينات ثقافية مُوالية (الأقليات) لإدارات الاستعمار ومتمتعة بالامتيازات، وتكوينات ثقافية مُناهِضة (الأكثرية) تُعاني التهميش والحرمان على يد الأقليات والاستعمار في آنٍ واحد، مما أسقطَ ذلك في ظلالهِ على مرحلة ما بعد الاستعمار، إذ تحولت تلك التكوينات الثقافية صوب التنافس في ما بينها للاستيلاء على مركز الدولة ومؤسساتها، ثم دخول الكثير من هذه الدول في حروب أهلية نتيجة لذلك، بل حتى انبعاث الهويّات الثقافية، وخصوصاً الدينية منها في العالم الثالث، قد تكون نتاج أزمة حضارية تولَّدتْ بفعل نشر القوى الغربية لنموذج الدولة ـ الأمة في بيئةٍ غير بيئتها الأصلية.
وأدّى ذلك بمرور الزمن إلى أن يتكيَّفَ هذا النموذج مع طبيعة البيئة الثقافية لينحرِف عن مسارهِ الأصلي المتمثل بإنشاء دولة موحَّدة ذات أمة واحدة، وأصبح بالتالي دولة ـ عُصبة مُحدثة، لا هي متغرّبة كلياً، ولا هي بالمنتمية كلياً إلى الموروث الثقافي. وهو ما يُحفز الّهويات الدينية على استلهام هذا الموروث بُغيّة الإتيان بنموذجِ دولةٍ بديل يستوعب التباينات الإثنية والعرقية والقبلية، على أساس الاشتراك في الموروث الثقافي نفسه قُبيلَ تَسيُّسهِ، وتغريب رؤية المكوّنات الثقافية عن بناء الدولة وتحديثها.
وفي ضوء ذلك، يشير الباحث إلى أن معالجة موضوع البحث، توزّع على ثلاثة فصول، تسبقها توطئة في تحديد المفاهيم الرئيسية لموضوع الأطروحة، الأول بيّنّ كيفية نشوء الدولة ـ الأمة، وغُدو تنوّع مكوّناتها الثقافية من قبيل التحديات الجدّية أمام وحدتها السياسية. كذلك تمّ التركيز فيه على فكرة أن نوعية تعامل هذه الدولة مع الأقليات هي التي أدّت بالدولة، على نحوِ جوهري، إلى الوقوع في حالة الأزمة، ليقودنا ذلك إلى محاولة العمل على معالجة كيفية تبلور اتجاه التعدّدية الثقافية، فكراً وممارسة، ضمن نطاق هذه الأزمة.