علي المعشني
أدْرَك العقلاءُ اليوم في الوطن العربي -أكثر من أي وقت مضى- مَاهيَّة ما سُمِّي بالربيع العربي وهويته وحقيقته وأهدافه؛ بفعل الصُّمود الأسطوري لدمشق، هذا الصُّمود الذي أطال أمد الرهانات، وترقب الحصاد، وفتَّت المؤامرة حلقة حلقة، وفضح من يقف خلفها من دول وشخوص ودعم وتمويل وأبواق إعلام، إلى درجة يستحيل معها اليوم إنكار أدوات المؤامرة الفاعلين، وطابورهم الخامس؛ لدورهم الجلي في النيل من الدولة الوطنية في الوطن العربي، وعلى رأسها الدول الفاعلة، والتي تشكل خطرًا على أمن الكيان الصهيوني وتُعِيْق أو تعارض التطبيع معه.
كما أدْرَك العقلاء في الوطن العربي اليوم -أكثر من أي وقت مضى- أنَّ الغرب وعلى رأسهم أمريكا هم من أشد معارضي نشر الديمقراطية وبسط ثقافتها في الأقطار العربية؛ كونها أداة توسع المشاركة الشعبية في القرارات الوطنية والمصير، كما أنَّ الغرب -وعلى رأسهم أمريكا- هم من أشد المحاربين للإصلاح في أي قطر عربي يأتي عبر إرادة وطنية خالصة دون مشورة أو تدخل منهم.
وتجلَّى لنا اليوم أنَّ الغرب عبر ربيعه البائس المشؤوم جيش كل قدراته لتدمير الدولة الوطنية وتفكيكها كي يعيد تركيبها على هواة ووفق مخططه وما تمليه مصالحه كحالتي العراق وليبيا واللتين هيمن عليهما الغرب منفردًا وبلامنازع بذريعة نشر الديمقراطية والحرية؛ فجعلهما كانتونات لطوائف وميليشيات وأوكارا للفساد وحواضن للإرهاب لا تخفى على أعين المبصرين.
الغريبُ أنَّ الربيع لم يقترب تلميحًا ولا تصريحًا من طابور أمريكا في الداخل العربي رغم سجلاته الحافلة التراكمية بالتخلف والقمع وهدر الكرامة الانسانية وعدم توفره على أبسط أدوات الديمقراطية وأضيق مساحات التعبير! لهذا حديث آخر.
ما تُريد أمريكا تحقيقه من الربيع للأقطار العربية الفاعلة ليس الفوضى الخلاقة فحسب كحالتي العراق وليبيا، ولا الاحتلال المباشر وتكريس التبعية، بل خلق كيانات لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، كيانات دول السوبر ماركت التي تتمتع بكل مظاهر الترفيه والتسوق وأعلاها، وتمتلئ أيام شعوبها بالمهرجانات وجنبات شوارعها بالمولات والمجمعات التجارية ويقطنها بشر بلا هُوية أو تاريخ أو أثر حضاري، ومجتمعات تمتلئ بضجيج الديمقراطية الصورية وقشورها، ويقرر مصيرها جملة ممن يسمون بالنشطاء وأدوات المجتمع المدني؛ فجميع تلك الطقوس والمظاهر والأدوات كفيلة بتمرير الثقافات الغربية والسلوك الغربي والبضائع الغربية، وبالنتيجة كيانات وشعوب ممسوخة الهوية ومسلوبة الإرادة وعديمة النفع والتأثير لأوطانها، وكيانات تعاني من أعراض الاستقرار القلق ومهددة بالزوال.
مشكلة الغرب الحقيقية -وعلى رأسه أمريكا- هي النرجسية والغرور القاتل وشعوره بأنَّ القوة المادية تعني العبقرية المطلقة، وأن ما يُخطط له سيناله لا محالة، وأنَّ الآخر المستهدف غير الغربي هو عبارة عن "لاشيء" في المعادلة.
رَاهَن الغربُ على أنَّ تدمير سورية هو تاج مخططاته في المنطقة وعلى أن سوريا لا تتطلب منه سوى ثلاثة أشهر فقط لإسقاط الدولة وتغيير النظام والسياسات والعبث بالمؤسسات الحرجة للدولة السورية على طريقة بريمر في العراق.
تسلَّح الغرب في مخططه لسوريا بغباء سياسي وعسكري غير مسبوق، وراهن على نجاح تكرار إستراتيجيته في إسقاط النموذجين العراقي والليبي، متجاهلًا وجاهلًا بعقيدة الجيش العربي السوري، وبعقيدة المؤسسات الأمنية السورية والحزب الحاكم، ومستخفًا بقوة وعقيدة حلفاء سورية من تيار المقاومة ومختبرًا لثباتهم وصلابتهم في دعم الدولة السورية ومتناسيًا لمصالح الكبار مع سوريا وفيها.
الواقع اليوم هو من يتحدَّث بلسانه بعد مرور ستة أعوام على ملحمة دمشق التاريخية وست سنوات عجاف مليئة بالخيبات لأمريكا وطابورها، والذين لم يحققوا سوى حقيقتهم واحترافيتهم وعقيدتهم في سفك الدماء وبسط الدمار والخراب على الأرض السورية.
سقطتْ عُروش، وتهاوت أحلام، وزالت شخوص، وتغيرت سياسات وتحالفات، وتكشَّفت حقائق، وطفحت نوايا، وانهارت خزائن مال، ودمشق صخرة صماء تتكسر عليها حلقات المؤامرة، وقلعة صامدة تتحمل جهد المعركة بالنيابة عن الأمة العربية، وبشار يصنع المجد ويهديه للشرفاء، ويقود سفينة الأمة ويحمي عرينها.
السقوط الكبير والمريع لأمريكا وطابورها في المنطقة لا يتمثل في الهزيمة العسكرية النكراء على الأرض السورية، ولا في السقوط السياسي في المحافل الدولية، بل في السقوط الأخلاقي المرعب، والذي أوصل اليأس إلى أوصال ووجدان طابور أمريكا ليعلن تحالفه الصريح مؤخرًا مع العدو الصهيوني وتحت قيادته ومظلته لتحقيق ماتبقى له من أضغاث أحلامه بعد أن فقد جميع الحلقات الكبرى من إستراتيجيته.
لا شكَّ أنَّ التحالفَ الأمريكيَّ اليوم، وبكل مكوناته، في أرذل حالاته بعد أن فقد جميع أوراقه المؤثرة في الأزمة السورية من دواعش على الأرض وقرارات أممية وحلفاء طوعيين بحجم التنظيم الدولي للأخوان، بفعل ما تحقَّق من مكاسب عسكرية مهمَّة على الجبهتين السورية والعراقية، فالحرب بالوكالة التي حلم بها الغرب في سورية تمارسها اليوم فصائل الخراب ضد بعضها على الأرض السورية بفعل تداعيات الأزمة من هزائم ويأس وإحباط.
العراق اليوم تتشكل هويته الوطنية والعربية المستقبلية وسينتفض على نفسه وعلى إرث البعث الشوفيني ورموز الفساد والعمالة في عراق الاحتلال عاجلًا أو آجلًا، والروس اليوم باتوا أكثر اطمئنانًا وأمنًا على أمنهم القومي بعد حملات التطهير والتعقيم للأرض السورية من رموز الإرهاب، والتي كانت مكلفة بالعبث بالأمن الروسي بعد إتمام مهمتها في سورية وفق الحلم الأمريكي، وإيران تتعاظم قوتها وتجربتها كل يوم لتشكل رعبًا مٌركبًا للكيان الصهيوني وحلفائه الجدد والتقليديين، وحزب الله بات أكثر جهوزية وتمرُّسا وسيعود بجهده الحربي تباعًا إلى عرينه في جنوب لبنان، وحركة حماس تتشكل مجددًا على وقع المقاومة والانتصارات على الأرض السورية، ومصر تتلمَّس عرشها القيادي العربي بشغف وحذر، واليمن السعيد أُكْرِه على تحديد هويته المستقبلية ومساره السياسي فاختار المقاومة، وتعود دمشق -كما كانت- الحاضن والعقل المفكر لتيار المقاومة.
مشكلة الطابور الأمريكي اليوم ليست في الإفلاس العسكري على الأرض بفقدهم لدواعشهم، ولا في الإفلاس الأخلاقي والمتمثل في التحالف مع الكيان الصهيوني في وضح النهار ودعم ومباركة المشروعات المهددة للأمن القومي العربي كسد النهضة الأثيوبي، والسعي لتحويل جنوب اليمن إلى نقطة تجمع وإستيداع للدواعش لمهام قذرة قادمة، ولا في الإفلاس السياسي والذي جعلهم كالقطيع تحت رحمة أمريكا ورهن إشارتها لدرجة تفريطهم حتى في أبسط مصالحهم ومقدرات أوطانهم، بل في كونهم وصلوا مرحلة اللاعودة، وعليهم الاستمرار في طريق الخطأ والانغماس أكثر فأكثر حتى الفناء. فالبديل أكثر مرارة وقسوة، إذا ما علمنا أن أمريكا تلوح لهؤلاء بجملة من المخاوف والإكراهات اليوم لعل أقلها مستمساكتها عليهم بالأدلة القطعية بجرائم حرب ودعم للإرهاب، بعد أن كانت تعدهم بالفردوس من غنائم ليبيا والعراق واليمن وسورية، لهذا أصبح من المستحيل على الطابور الأمريكي الانفكاك من أغلال وشراك الفخ الأمريكي المحكم سوى بالانغماس أكثر وأكثر في الدماء والدمار والتمويل للمشروع الأمريكي الصهيوني حتى تذهب ريحهم وتتهاوى عروشهم ويلاقوا حتفهم الذي صنعوه بأيديهم، وما نراه اليوم من جهر بالمعاصي وفخر بالمفاسد وفي وضح النهار لهو أكبر دليل على ذلك، فقد انقسمت الأمة اليوم إلى فسطاطين لا ثالث لهما، تطبيعي ومقاوم، ولم تعد تنفع أي منهم التورية أو التقية السياسية أو أنصاف المواقف.
سنكتشف ذات يوم ليس ببعيد، أن سوريا ليست دولة ولا نظاما ولا كيانا سياسيا كما يظهر لنا، بل فكرة وثقافة وإلهام حضاري وقيمي علَّم البشرية الكثير من المفردات والمهارات والقيم، وأن حلفاء سوريا اليوم والغد كبارهم وصغارهم ليسوا سوى تلاميذ نجباء في مدرسة سوريا العظيمة وأرواح مجندة لها، هذه المدرسة التي لم تعلمهم مهارات الحياة فحسب بل علمتهم الحياة بعينها ومفاتيح الحياة، علمتهم أن الصبر العظيم يولد النصر العظيم، وأن الحضارات تنحني ولاتنكسر، وأن الأمم العظيمة ابتلاءآتها عظيمة، وأن الطارئين على التاريخ والمتطفلين عليه تذروهم الرياح.
سنكتشف ذات يوم ليس ببعيد أن مصالح روسيا مع سوريا أكبر بكثير من مصالح روسيا في سورية، وكذلك الحال بالنسبة لإيران، وسنكتشف أن من يعمد تحالفه بالدم والمال ليعضد حليفه فلامجال للتشكيك في صلابة مواقفه وجلاء عقيدته السياسية، وسنكتشف أن الزعيم بوتين هو المؤثر الكلي على روسيا ولا تستطيع روسيا كلها التأثير عليه.
سيكتشف الأعداء والخصوم وطابورهم أن حلف المقاومة اليوم يفوق مخططاتهم بمراحل، بمكوناته وعقيدته القتالية وثقافته العابرة للأجيال والحدود وبتعاظم المؤمنين به والداعمين له في ربوع الوطن والعالم.
أما الاكتشاف الأعظم اليوم فهو المستحيلات الثلاثة والتي تجلت كالشمس من قبل تيار المقاومة؛ وهي: التكامل العضوي، المصير الواحد، النصر النهائي العظيم وتاجه تحرير فلسطين من النهر إلى البحر وزوال الكيان الصهيوني إلى الأبد.
فقد زالت من مخطط تيار المقاومة اليوم لاءات الخرطوم الثلاثة (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) وأصبحت المبادرة العربية للسلام شيء من الماضي وستتبعه مبادرة حل الدولتين لا محالة وسيتنصر خيار المقاومة، بدليل انقلاب حماس على نفسها ومؤتمر الانتفاضة السادس بطهران مؤخرًا وهلاوس ترامب وسعار الكيان الصهيوني، والأيام القادمة حُبلى بالكثير من المفاجآت، فنحن اليوم نرى بأم العين مقولة الزعيم الصيني ماوتسي تونج: "هناك دائمًا حركات صغيرة غير مرئية تتسبب في تغيير مجرى التاريخ". فما بالنا إذا كانت هذه الحركات اليوم مقاومة إنطلقت ببندقية كلاشينكوف واحدة عام 1982م من رحم هزيمة وتطبيع لتصبح دول وجيوش وعتاد يفوق خيال كل متفائل ومتشائم!!
----------------------
قبل اللقاء: يقول الشاعر العربي السعودي مهذل الصقور:
أتظن أنك بعدما أحرقتني...
ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
وتركتني للذاريات تذرني...
كحلًا لعين الشمس في الفلوات
أتظن أنك قد طمست هويتي...
ومحوت تاريخي ومعتقداتي
عبثًا تحاول.. لا فناء لثائر...
أنا كالقيامة ذات يوم آت
وبالشكر تدوم النعم....!
Ail95312606@gmail.com