السياسة العمانية ودورها في التصالح والتقارب بين الدول

 

 

عبدالله العجمي

قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"، حينما نمرُّ على هذه الآية الكريمة لا يختلفُ اثنان على أنَّ الاعتدالَ والوسطية في التعامل مع الغير هما من سمات هذه الأمة، بل ومن صفاتها المتأصلة فيها، والتي أثبتها وخلَّدها المولى في كتابه الكريم، وهو مطلب إيماني وغاية سلوكية واجتماعية.. ومصطلح شامل لكل معاني العدل والاستقامة.

ولا نُبالغ إنْ قلنا بأنَّ الوسطية هو المنهج الذي انتهجته السياسة الخارجية العمانية في تعاملها مع النزاعات والخلافات الحاصلة على الساحة الاقليمية.. منهج قلَّ من يتَّبعه بهكذا عقلية ووعي في خضم الأمواج المتلاطمة حولنا. وقد بَرَعت وأبدعتْ السياسةُ الخارجيةُ العُمانية في تعاطيها مع الكثيرِ من القضايا الراهنة في المنطقة، بل وفي أحلك الظروف، مسجِّلة بذلك إنجازات تشهد لها كل المحافل الدولية؛ فالتاريخ يشهد بأنَّ السلطنة طوال تاريخها المجيد لم تُهرق نقطة دم واحدة، بل كانت -ولا تزال- تسعى بكل دبلوماسيتها إلى وقف جميع أشكال نزيف الدم العربي والمسلم.

إنَّ التجربةَ العُمانية الرائدة جديرة بأنْ تتحوَّل إلى مادة أساسية تُدرَّس في مناهج السياسة، وما أحوج العالم إلى انتهاج هذا المنهج والنظر إلى الأمور من زاوية مختلفة عما هي عليه الآن.. وهذا لا يُمكن تحقيقه إلا بالنهج السياسي المعتدل والإرادة الهادفة لاحتواء المشاكل والخلافات التي تحدث بين الأشقاء؛ فرغم أنَّ لكل دولة طريقتها الخاصة في التعاطي مع المشاكل والخلافات، وهذا أمر طبيعي، إلا أنَّ الطريقة العُمانية فريدة من نوعها.

ولعلَّ مُجرَّد التفكير لحل الخلافات والمشاكل القائمة على الساحة عبر الحوار السلمي والسعي إلى المبادرة لإصلاح ذات البين بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية يؤكّد ما تم ذكره؛ فلا حلَّ سوى بتنحية الخلافات جانبا ومحاولة انتشال ما تبقى من هذه الأمة.. طبعا لا نقصد تصفية كل الشوائب صغيرها وكبيرها؛ ولكن تقريب وجهات النظر بينهما ومحاولة تغيير فلسفة كل منهما في كيفية التعاطي مع بعضهما البعض. الجميل في كل هذا أنه يتم بسريَّة عالية وتكتُّم شديد، وعدم السماح لتلك المبادرات في التسلل إلى الإعلام، ولا يندرج ذلك في خانة سلب الحريات بل هي سرٌّ من أسرار نجاح أية مبادرات أو مفاوضات، ولنا في نجاح المفاوضات الإيرانية-الأمريكية خيرُ شاهد.

إنَّ لملمةَ الملفات الشائكة بين الطرفين السعودي والإيراني، ومحاولة تقريب وجهات النظر والسعي للتوفيق بينهما، لهو مَوْقِف يستوجب أنْ نصطفَّ جميعنا خلفها، بل ويتحتَّم علينا جميعاً محاولة تأصيل هذا المبدأ القرآني في مقابل من يعارض هذا التوجُّه ويسعى لمحاولة جرّ الأمور إلى التأزيم. ونحن نعلم يقيناً أنَّ الداعين إلى التأزيم لا ضير لديهم من خلق المبررات الواهية والحجج الهشَّة ليتمادوا في هذا النهج التأزيمي. ولا نعلم متى يكفُّ أهل الغيِّ عن غيّهم. هل الاستقواء بالخارج لتشتيت الصف الإسلامي هو غايتهم؟ كل ما عليهم هو الالتفات يمينة ويسرة للوقوف على النتائج التي تؤدي إليها المواجهات وما تخلفه من دمار وخراب.

نأملُ أنْ تُؤدِّي هذه المفاوضات المزمع انعقادها بين الطرفين برعاية عمانية-كويتية إلى التوصل لاتفاق يؤسس لمرحلة جديدة مستخلصين العبر مما مضى وفات.

ولعلَّ ما دَعَاني إلى تسليط الضوء على هذا الجانب من جوانب التأزيم هو الاستطلاع الذي أجرته جريدة الوطن البحرينية في عددها الصادر بتاريخ 5/2/2017م، والذي استطلعت فيه آراء وتحليلات نخب خليجية من المفكرين والمهتمين بهذا الشأن. اللافت للنظر أنَّ رأي النخب العُمانية كان مُتفائلاً ومُتطلعاً لنجاح مُبادرات من هذا النوع في التقريب؛ إذ أسست الباحثة العمانية فايزة محمد البلوشية عضوة اللجنة الاستشارية بمجلة "شرق غرب" الفكرية في حوارها مع الجريدة للمبادئ التي يفترض أن يقوم عليها أي حوار قادم؛ فقد أشارتْ إلى أنَّه يجب أن يكون على أسس سليمة وأجندة واضحة معتمداً على الصراحة والمكاشفة مع الآخر، وأشارت إلى نقطة مهمة ألا وهي أن دول الخليج وإيران بدأت تدرك أهمية الحوار. بينما أشار الدكتور عبدالله باعبود مدير مركز دراسات الخليج بجامعة قطر، إلى أنَّه حان الوقت لكي يتجاوز الجميع الخلافات وسوء الظن ونفتح صفحة جديدة.. كل هذه الآراء تؤكد أن منهج الوسطية والاعتدال هو منهج عُماني أصيل.