" من أين تؤكل الكتف "

عائشة البلوشية

المشهد الأول: كُلنا يتذكر شخصية الكونت "دراكولا" التي ظهرتْ في العصر الفيكتوري وملأت العالم رُعبا، كتب روايتها الكاتب الأيرلندي "برام ستوكر" عام 1897م، والذي بَنَى روايته على شخصية حقيقية ﻷمير روماني حينها اسمه "فلاد تيبيس"، والذي اعتبره الرومان شخصية وطنية حينها، واشتهرت هذه الشخصية بعد خروج أول عرض سينمائي أنتج في العام 1931م، وتتالتْ الأفلام والمسلسلات الدرامية والمرعبة والكوميدية التي تدور حول هذه الشخصية بالذات، وفي السنوات الأخيرة تابعت أجزاء أفلام Twilight(الشفق) الشهيرة، والتي حققت أرباحا ذات أرقام فلكية، وهي أفلام تتحدَّث عن حبكة خيالية جديدة حول حياة مصاصي الدماء، لكنَّ الإخراج المتقن والمؤثرات الصوتية والتقنية، تجعل المشاهد يتابع الفيلم باستمتاع حتى اللحظة الأخيرة، وقد لاحظ الغرب بعد عرض الفيلم الأول أن الفتيات أصبحن ولشدة ولعهن بالممثلة "كريستين ستيوارت" يتمثلن بهيئتها، كما أنَّ الشباب والمراهقين أصبحوا يقلدون "روبرت باتينسون" بطل الفيلم، ورغم رمزية المحتوى الفيلمي؛ حيث أصبح البشر ينهشون بعضهم البعض ويمتصون دماء بعضهم للوصول إلى هدف دنيوي من ثراء أو منصب أو غيرها من الأمور الزائلة، إلا أن عادة غريبة جدا يأنفها القلب والعقل بدأت في الانتشار بين فئة الشباب والمراهقين، ألا وهي شرب أو امتصاص الدماء، لارتباط هذا الفعل في عقولهم بأساطير قديمة تتعلق بإطالة عمر من يعيش على امتصاص الدماء، وغيرها من الخرافات، حتى إنَّ بعضهم بالفعل قام بتغيير شكل أنيابه لدى اختصاصيي التجميل، ليصبح شبيها بمصاص الدماء، وأيا كان فهذه ممارسات وطقوس مريضة لفئات قليلة أصبحت منبوذة في الغرب، وبحسب جميع الأفلام الخيالية التي عرضت فإن موقع العَضَّة في ذلك العرق النابض في العنق، ينقل العدوى ليصبح الشخص مصاصا للدماء، ولكنه يطيل العمر.

المشهد الثاني: تنتشر في أيامنا هذه طريقة مبتكرة للعض في أعناق البشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة؛ حيث يقوم مصاصو الدماء الافتراضيون بنشر بعض المقالات والتحليلات المشوهة لوجوه بعض الشخصيات، أو الوطن أو المواطن، والكثير منا يستغرب المغزى من هذا، هل هو بدافع التنفيس الشخصي، أم هو بدافع الحقد، أم هي هرطقات ليقال فلان شجاع ﻷنه كتب ففضح؟ وأي تفسير نأخذ به مما سبق لن يؤدي إلا إلى نفس النتيجة، ألا وهي التشويه وليأكل لحم أخيه أو وطنه، متناسيا ذلك الذي شحذ أنياب قلمه وانبرى يعض في كبد شخص أو أشخاص بعينهم أن هنالك ربًّا جبارًا، هو القادر والمطلع على ما تخفي الأنفس والصدور، والأنكى بأن هنالك من هؤلاء من يعلمون تمام العلم عدم صحة ما يكتبون، إلا أنَّهم ولغرض مريض في نفوسهم، يمضون ويكتبون مستندين لشائعات من ماركة "قال فلان وذكر علان"، وسؤالي لمثل هؤلاء: ما الذي تحاول أن تغرسه من شعور في أجيال البلاد المقبلة على الحياة؟ ألم تفكر ولو لوهلة بسيطة ما هي حال أبناء ذلك الشخص أو الأرض الذي/التي تناولته نهشا وتقطيعا؟ لماذا يكون اهتمامك الأول عندما تواجه مشكلة ما أن تبحث عن وجه الحقيقة؟ لماذا بمجرد أن تسمع أو تقرأ سطرا في رسالة سوداء أو معلومة محشوة بسم المغالطات تبدأ في بخ الموجات السلبية القاتلة في عيون من تعرفهم ومن لا تعرفهم؟ وبالأحرى لماذا تحمل نفسك ما لا تطيق تحمله أمام رب العزة وتتبع ثرثرة فارغة عبر عالم افتراضي فرض نفسه علينا؟ لماذا إذا واجهت مثل هذا لا تسأل نفسك هل هناك مشكلة؟ وهل أستطيع مد يد العون للوطن في حلها؟ متيقنا في قرارة نفسك بأنك إن استطعت ذلك فلك أجر المحاولة بدلا من اتخاذ موقف المتفرج المتصيد الشامت والعياذ بالله، وإن لم تستطع فلك راحة النفس بأنك بذلت جهدا في التفكير، ألا ترى أن هذه السطور التي تخطها وتظنها انتصارا لحق مسلوب قد تغرِّر ببعض القلوب البيضاء النقية، فتتلوَّث بسواد حبرك؟!

المشهد الثالث: كُلنا يَعِي أننا نعض الطعام بالقواطع من أسناننا قبل مضغه بالطواحن منها، وقديما كانت العرب تقول: "فلان يعرف من أين تؤكل الكتف"، حيث كانوا يعتقدون أن لحم الكتف إذا نزع من موضع معين نزع كله، فإذا عرف الرجل ذلك الموضع فإنه ينتزع لحم الكتف الشهي، وإلا تمزق اللحم وخرج ممزقا متفرقا، وهذا يعني أن الرجل ذكي وحاذق ويعرف كيفية الاستفادة من الفرص التي تسنح له، وهناك تفسير آخر يقول بأنَّ الأصل في هذا المثل أن العظم تحت اللحم في الكتف مقعر فتتجمع فيه العصارة والمرق عند الطبخ، فإذا سحب الرجل اللحم من أعلى إلى أسفل ظل المرق متجمعاً تحت اللحم، أما إذا سحب اللحم من أسفل إلى أعلى انصب المرق في حضنه، فالرجل الحاذق يعرف كيف يسحب اللحم بأسنانه دون أن يتلوث بالمرق، والقصد أنه يعرف كيف يغتنم الفرصة مع اجتناب المخاطرة، وقد استفاد المتمثل هنا من سلوك العض الطبيعي في أكل جزء محدد من اللحم هنا ليوظفه في ضرب المثل.

الخاتمة: العضُّ سلوكٌ فسيولوجي، حاله حال أي سلوك يصدر عن الإنسان، فإذا كانت العضة في المكان غير المناسب أوجعتْ وأدمتْ، وإذا جاءتْ في المكان المناسب داوت وشفت، كفانا عضا ونهشا في لحوم وقلوب بعضنا البعض، وكأننا وحوش في غابة مظلمة، ولنعد إلى إنسانيتنا الجميلة التي فطرنا الله عليها، ولنمسك بأيدي بعضنا لننهض ببلادنا الحبيبة، ولنعضن بالنواجذ ولنصر على استقرار بلادنا وراحة أفئدتنا، وقبل أن يتخطى الفرد منا الدوائر، ليركن كل منا إلى تطوير ذاته ومحيطه علما وعملا، وهنا نتذكر قوله تعالى في الآية 19 من سورة الزخرف: "سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ"، ولنضعها أمام أعين قلوبنا عندما نصدر الأحكام على (من) و(ما) حولنا، ولنترك الخلق للخالق، ولمن خالف الأمر وعض على لحم الوطن ونهش قلبه، هنالك جهات تقومه وتنهاه سواء بالزواجر أو الجوابر أو كليهما معا.

--------------------------------

التوقيع: قال أحد السلف: "أنت اليوم تُمْلِي وغدا سوف تقرأ، فأحْسِن ما تُمْلِي لتفرح بما تقرأ".