حكاية الطالب كيودوك

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

 

هناك أسبابٌ كثيرة قادتني إلى استرجاع حكاية الطالب "كيودوك" هذا الأسبوع، بعضها مرتبط بحالة التوهان التي تعيشها شعوب المنطقة وحكوماتها حول سُبل النهوض من كل ما يجري من أزمات اقتصادية واجتماعية وتعليمية، وبناء مجتمعات قادرة على أن تكون مُعتمدة على ذاتها، مجتمعات تعي أنَّ النهوض ليس مُهمة مستحيلة لأنَّ هناك مُجتمعات لم تكن تملك أي ثروات إلا الإنسان ومنها مُجتمع الطالب "كيودوك" ومع ذلك لم تيأس، ولم تستسلم، ولم ترهن مصيرها للقدر الذي لا يكون رحيماً بالذين لا يحاولون مُقاومته، ولا يكون رحيماً بالذين لا يفعلون شيئًا لتغيير واقعهم، ولا يكون رحمياً بالذين لا يُراجعون أنفسهم، ولا يُصارحون أنفسهم بإشكالياتهم، ولا يُديرون ثرواتهم بإخلاص وضبط، كما أنَّ ما أشاهده من ضعف دافعية طلبتنا استدعى بداخلي حكاية هذا الطالب الذي لولا دافعيته الكبيرة هو ومن معه من شباب وطنه لما قفز وطنهم وتغيَّر وأصبح نموذجاً لجميع دول العالم، دافعية يبدو أنَّه لا تحركها كل هذه الأوضاع والنقاشات، الكل يعمل وفق الحد الأدنى، ويتذمر، ويشتكي من أية مُتطلبات، لا يُريد أن يقرأ إلا قليلاً، لا يُريد أن يسهر لكي يبحث ويتعلَّم، لا يُريد أن يُثابر كما يُثابر الطلبة في البلد الذي ينتمي إليه الطالب "كيودوك"، وتعمل مؤسسات التعليم على تشجيع ذلك التَّراخي حيث تفتح الباب على مصراعيه لتمرير قوانين تُشجع على ذلك التَّذمر، وتقتل الدافعية التي يجب أن توجد، وتقضي على أيّ أمل للانضباط، فكيف يُمكن أن نواجه أزماتنا ونطور مجتمعاتنا، وإراداتنا مهزومة؟.

 

 

نُريد أن نتعلم كيف يصبح الإنسان مصدرًا لانطلاقة كبرى في حياة المُجتمعات، ولا يمكن أن نتعلم ذلك إلا إذا توقفنا قليلاً لكي نتدبَّر في ما يجري، في تصوراتنا عن هذا الإنسان، وفي تصورات الإنسان عن نفسه، نُريد أن نتعلم أنَّ الثروة التي نبحث عنها لا معنى لها إن لم نتمكن من بناء وعي الإنسان لكي يكون محركًا لكل رخاء، وأداة لكل تقدُّم، والدرس الذي يُقدمه لنا "كيودوك" الذي يحدثنا عصام رفعت عنه وعن حكايته معه قبل 29 عاماً من الآن، ولكن ما دار فيها يستحق أن نسترجعه بعد كل هذه السنوات علَّه يضعنا على الطريق الصحيح، يحكي عصام رفعت " كنت أقوم بتدريس الاقتصاد باللُغة العربية للأجانب في الجامعة الأمريكية في عام 1978 حيث كان من ضمن الطلاب الكوري الجنوبي "كيودوك" وكان طالباً يحمل دافعية كبيرة، يبدو عليه الذكاء، والرغبة في التَّميز، كان لا يكف عن التساؤل، وكان يُجيد اللغة العربية بطريقة مُثيرة للاستغراب، حيث كان خطُّه الذي يكتب به كأنه رسم قامت به آلات المطبعة، وفي نهاية الفصل حصل هذا الطالب على الامتياز، ويواصل هذا المُحاضر حديثه عن هذا الطالب الذي جعل يسأله عن بلده، حيث قال له في نهاية إحدى المُحاضرات: ما الفرق بين الكوريتين؟

 

ربما لم يكن السؤال مفاجئاً للطالب، فمن كان في مثل وضعه كان يُمكن أن يُسأل مثل هذا السؤال، فحين ينتمي أبناء وطن واحد إلى شمال وجنوب، يكونون معرضين إلى مثل هذه التساؤلات، ولكن المفاجئ كانت طريقة الإجابة عن هذا السؤال، حيث لم يجب "كيودوك" شفاهة وبسرعة إنما طلب قطعة طباشير وذهب إلى السبورة، ورسم مستطيلاً عليها قسمه إلى نصفين، كتب في النصف الأعلى كوريا الشمالية وكتب في النصف السفلي كوريا الجنوبية، ولم يكتف بذلك بل واصل الإجابة حيث كتب في النصف العلوي هنا توجد كل الثروات، وكتب في الجزء السفلي هنا لا يوجد إلا الإنسان، هنا وقف هذا المُحاضر يتأمل هذا الإنسان الذي جاء من البلد التي لا تملك إلا الإنسان، ولكن إذا كان هذا الإنسان يشبه هذا الطالب فهو إنسان سوف يُحرك نهضة كبيرة ..لم تقف حكاية هذا الطالب عند هذا الحد فالحكاية لها جزء مُهم جداً لا يُمكن تجاهله.

 

لقد طلب "كيودوك" من هذا الأستاذ مُساعدته في الالتحاق بجامعة القاهرة، فلم يُقبل بسهولة إنما قبل بعد المرور بعدة مُقابلات مع محمد زكي شافعي - رحمه الله - العميد المؤسس لكلية الاقتصاد، كان يومها التركيز على القُدرات والمؤهلات التي لا يُمكن بدونهما أن يبدأ أي طالب رحلة الدكتوراه، أين ذهب كل ذلك الاصطفاء العلمي الذي كانت تعمل به الجامعات؟، ليس المقام هنا لمثل هذا التساؤل لكن المقام مخصص للطالب "كيودوك" الذي نجح في اجتياز مُقابلات القبول، وأصبح طالب دكتوراه يعمل على بحث عنوانه "دراسة مقارنة عن التنمية الصناعية في كوريا الجنوبية ومصر بين عامي (1952- 1975)، وقد يستغرب القارئ ما وجه المُقارنة بين الدولتين، هل كانت مصر خلال تلك الفترة تستطيع مضاهاة كوريا الجنوبية هذه الدولة العملاقة التي يتحدَّث عنها العالم اليوم؟  والإجابة تكمن في الخلاصة التي توصل إليها "كيودوك" حيث خلص من دراسته إلى أنَّ الاقتصاد المصري في تلك الفترة كان يساوي عشرين مرة الاقتصاد الكوري الجنوبي، وبعبارة أخرى أن مصر كانت متقدمة على كوريا الجنوبية، ليس بدرجة ولا بدرجتين ولكن بعشرين درجة.

 

 

فما الذي جرى لنا؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عصام رفعت وهو سؤال جوهري مُرتبط بالمستقبل والمصير، سؤاله لا يتعلق بمصر فقط، فحالة الانكفاء والاستسلام والتراجع تعم مجتمعات كثيرة، والكل يبحث عن الأموال لا عن الإنسان، الكل يرى أنّ الثروات هي المُخلص ولا أحد يثق أن الإنسان يمكن أن يكون مصدر خلاص، يذهب رفعت إلى تفريع سؤاله إلى أسئلة فرعية، ويقول متسائلاً ما الذي حدث لنظامنا التعليمي؟ ما الذي حدث حتى أنَّ التفوق عندنا تحول إلى تخلف؟.

 

ما الذي يحدث لنا؟ لماذا لا نعرف أين السبيل لكي نُعيد بناء مقومات قوتنا؟  لماذا لا ننظر إلى الآخرين ونتعلم الإرادة منهم بدلاً من أن نسعى إلى تسليمهم زمام التخطيط لنا، نوكل إليهم مهمة تطوير اقتصادنا؟ لماذا نحاول فقط أن نخفي أسباب عجزنا ولا أحد مثلنا أدرى بواقعه؟ لماذا نصر أن نقامر بالمستقبل ونحن نرى كل شيء يتغير من حولنا، والأموال لا تكاد تكفي لكلي نشغل كل شيء، والأحزمة مهما تشددنا في شدها لن تظهر إلا ضعفنا، لا شك أننا إن لم نعد النظر بجدية في أنظمتنا التعليمية، ونتشدد فيها، لن نتقدم خطوة نحو الأمام؟ وإن لم نعد النظر في دافعية طلبتنا حتى تكون مثل "كيودوك" وغيره من الكوريين الذين يندفعون للعلم والمعرفة ويلتزمون بها، لن نفلح في تجاوز تحدياتنا، حالة التراخي التي أشاهدها على طلبتنا تشعرني بقلق كبير، لا يُمكن أن نبني مجتمعًا متطورًا إن كانت الفئة الأكثر نشاطاً لدينا هي الأقل دافعية، ولا يمكن أن نبني مجتمعاً متقدماً إن كُنّا لا نزال نعتقد أننا هبة الثروات فقط، وأن الإنسان مجرد مستهلك لا يُمكن أن تبنى عليه نهضة حقيقية.