معايير التنمية وتحجيم الفساد

عمَّار الغزالي

تتّفق أبجديات الاقتصاد على أنَّ الرقابة والنزاهة بمثابة الإبر المغناطيسية التي تضبط "بوصلة التنمية"، فتحدّد لها المسار الصحيح، في بحرٍ لُجيّ، تتقاذف فيه أمواج الفساد العاتية سُفنَ أسطول عريض من الاقتصاديات، بممارسات مُعقّدة تكتمل فيها أركان "الجريمة المنظَّمة"، وهو ما أظهرته نتائج "مؤشر مُدركات الفساد" الأخير، الذي أصّل لإخفاقات متتالية لكثير من دول العالم، لم تستطع اجتياز خط النجاح في مستوياته الخمسة، الذي وضعت له منظَّمة الشفافية الدولية هذا العام معدَّل 43 درجة.

وفيما هي "قائمة سوداء" أُدْرجت عليها الدول الأكثر فسادًا، نَجَت السلطنة بفارق درجتيْن فقط عن الخط المستهدف، مُحافظة على الـ 45 درجة، لتحل في الترتيب 64 دوليًّا، والخامس عربيا، والرابع خليجيًّا. وما أثار الدّهشة ذاك التغنّي بالحفاظ على نفس المستوى، فانبرى الكثيرون في عقد المقارنات بين ترتيبنا والدول العربية، مكتفين بهذا الإنجاز المتواضع، ومتناسين أنَّ مُستويات الطموح في الفترة الحالية لم تعد ترضيها "أنصاف الإنجازات"، فأن نُحقّق ترتيباً متقدّما في هذا المؤشر -على وجه الخصوص- هو حق مشروع، وحلم لن ننثني عن الاعتقاد بأحقيتنا فيه، سيما ونحن نرى دولًا تسبقنا بمراحل في هذا المضمار، بفعل تبنيها قرارات "جريئة" وتطبيقات "صارمة" لمعايير النزاهة والشفافية وحوكمة القطاع العام.

ولنتفق ابتداءً على أنّ الإرادة السياسية التي تحتكم إليها السلطنة، وتدفعها رؤى وتوجيهات مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم -أبقاه الله- نجحتْ في تحجيم مظاهر الفساد، بدعمها الهيئات المعنية، وحمايتها وتسليحها بالأدوات المناسبة؛ استشعارًا بأهمية مكافحة هذا الداء اللعين، حتى صِرْنَا اليوم نتحدَّث عن إستراتيجية وطنية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، طال انتظار خروجها إلى حَيِّز الوجود، غير أنّ تطور أدوات الفساد، وتشعّبه وتمدُّده الأفقي والرأسي، و"الترتيب السلحفائي" على مؤشر كهذا، يضعنا مجدَّدًا أمام السؤال الوجودي: هل البيضة أولا أم الدجاجة؟.. إنَّه الإشكال الأساسي لدينا، تصدر المراسيم الداعمة للتطوّر، والمسهِّلة لإمكانية حدوثه، وتكون الثقة في الهيئات والمؤسسات والأشخاص، ثم نفاجأ بانقطاع السبل في منتصف الطريق، فلا نحن وصلنا، ولا الوقت يُسعفنا للبدء من جديد!!

إنَّها ليست إشكالية قُصور في الرؤى والأفكار، بل هو قصور في اضطلاعنا بمسؤولياتنا الوطنية التي لم ولن تتحقق بإستراتجيات وخطط نظرية لا تجد سبيلا لإنفاذها على أرض الواقع؛ فقبل أكثر من خمس سنوات -وعلى سبيل المثال- تمّ تعديل قانون جهاز الرقابة المالية، ومُنحت صلاحيات إضافية لمجلس الشورى، مثَّلت في حينها حالة من التعدّد الرقابي، حَدت بالآمال أن نجد أنفسنا نُضارع كبريات الدول في مؤشرات أكبر من هذا، خصوصا مع توافر بيئة تشريعية و"ترسانة قانونية" قوية، لكننا فوجئنا بأننا نبارح أماكننا دون التقدُّم خطوة للأمام، في وضعية تبعث على القلق.

ودون التحامل على أحد، فإنّ استعراضاً بسيطًا لما تستند إليه نتائج هذا المؤشر، يمكنه أن يغني عن كثير من السطور؛ فالمنظمة تعتمد على مسح لآراء الخبراء واستطلاعات رأي متخصّصة، وبيانات وتقارير تصدرها 5 مؤسسات دولية مشهود لها؛ تقيس مؤشر التحوُّل الديمقراطي والتنمية الاقتصادية، وتصنيف مخاطر الدولة، واستطلاع رأي منفذي الأعمال، ورصد قضايا إساءة استخدام السلطة، ومدى تطوُّر الأداء البرلماني في محاربة الفساد رقابيًّا وتشريعيًّا. وكوننا لم نحصل سوى على 45 درجة، فإن هذا يدفعنا للاتفاق على أن هناك خللا ما، حتى لو اختلفنا في تحديد منشأه.

وسياق كهذا لا يحمل أبدًا التشكيك أو المزايدة على أنَّنا نمتلك مجتمعا قويا واعيا يتسلح بمعايير القيم الدينية والمجتمعية، ولديه الرغبة الصادقة في لفظ الفساد، وإنما لسبب أو لآخر، يبقى التنظير شيئا والواقع شيئا آخر؛ فالواقع اليوم يقول بأننا نفتقد لجُملة موجِّهات أحدث غيابها شرخاً في سفينتنا الطامحة للوصول إلى مصاف العالم الأول؛ ومسؤولية المعالجة تفرض جُملة من العلاجات -تخرج من حساباتها المسكنات أو المهدئات- تتمحور في عدّة نقاط نجملها فيما يلي: مراجعة عاجلة وجادة لتطوير تشريعاتنا المعنية بمبادئ النزاهة ومكافحة الفساد، وفق خطوات إصلاحية تشاركية، وصياغة ميثاق للنزاهة الوطنية، وبناء نظام مساءلة يُلزم كل مؤسسة ومسؤول بتحمُّل مسؤولية سياساته وقراراته وإجراءاته، وتعزيز علاقات التعاون بين السلطتيْن التشريعية والقضائية للتأصيل لـ"الحاكمية الرشيدة"، وتطوير القدرات المؤسسية لجهاز الرقابة المالية والإدارية، للارتقاء بأدائه وبما يعظم إنجازاته، وإصدار تشريع يجرِّم الوساطة والمحسوبية؛ لتطويق الفساد وإغلاق المنافذ أمامه من خلال العمل الاستباقي.

وكذلك تسريع الخطى نحو إكمال مشروع "الحكومة الإلكترونية"؛ باعتبارها ضمانة لتحقيق العدالة والنزاهة وتخفيض معدلات الفساد. وأجدِّد الدعوة هنا لتعميم مبادئ الحوكمة التي تستهدف تحجيم نفوذ "السلطة المطلقة" للموظف وترسِّخ لـ "المؤسسية"، ونشر التكنولوجيا الذكية‏ كإطلاق خدمة أو تطبيق إلكتروني لتقييم أداء الأجهزة الخدمية، تمكِّن من قياس مستوياتها ورضا المستفيدين عن خدماتها، وتدوير الموظفين والمسؤولين بشكل مستمر لضمان عدم السماح لبناء بؤر تستفحل فيما بعد، وإيجاد إعلام حُر ومسؤول يكون مرآة وعونا وسندا للجهود الحكومية في كل وقت وحين.

إنّ وهج التنمية الذي يتلألأ في سماء عُمان اليوم، لا يجب أن يمنعنا من النظر إلى القاع، لإصلاح ما ينخر في عَصَب نهضتنا المباركة؛ فالثقة دائمًا في إمكاناتنا المؤهِّلة لأن نرتقي مراتب "الأفضلية" باستمرار، وأن تُترجم أفعالنا نوايانا بالجدية في القضاء على الفساد، فإشكالية مكافحته ليست مسألة رياضية يمكن احتسابها بالأرقام لنصل إلى فك رموزها، بل هي التزام بالمسؤولية الوطنية، للوصول بعُمان إلى أعلى الهرم. وهو سياق يستدعي مشهدًا لا تزال دلالاته حاضرة في الأذهان، خلال تفضُّل حضرة صاحب الجلالة بافتتاح مجلس عُمان في العام 2015، وبحضور كافة مسؤولينا، وما تُلي من آيات كُرِّرت ثلاث مرَّات لعظيم وَقْعِها: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كُنتم مؤمنين".. إنَّها إرادتُنا: تنمية نظيفة لا تشوبها شائبة.

[email protected]