موهبة بحاجة إلى اهتمام

 

راشد البلوشي

 

كثيرًا ما تستهويني الكتابة أثناء السفر، قيل إن للسفر خمس فوائد" تفريج هم، واكتساب معيشة، علم، وآداب، وصحبة ماجد".
في رحلة دينية قطعت أكثر من 7000 كيلومتر ذهاباً وإياباً عبر حافلة تقل 50 راكباً من المُعتمرين والمُعتمرات بمُختلف المستويات الثقافية والبيئية، ومن مُختلف ولايات السلطنة، عشنا في جو روحاني أخوي حفتنا رعاية الرحمن.
الجميع يشده الشوق والحنين إلى الديار المُقدسة، أرقب تلك الوجوه التي انتابها في بداية اللقاء نوع من حب التَّعرف على بعضها، لا أحد يُريد أن يكشف عن شخصيته أو هويته في بداية الرحلة، إلا شخص واحد، يشرح مسار الرحلة وما ينبغي على الراكب أن يتجنبه، وما هو مستحب أثناء السفر.
خلال الرحلة اكتشفت بأنَّ هناك موهبة ضمن المجموعة تمتلك القدرة على سرعة معرفة العملية الحسابية، يستطيع أن يُعطيك نتيجة عملية حسابية دون الرجوع إلى الحاسبة الآلية في أقل من 50 ثانية. الغريب أنّ هذه الشخصية، تتولى قيادة الحافلة، برغم تركيزه على القيادة، إلا أن بعض الركاب يوجه إليه المسائل الرياضية ويُجيب عليها،الجميع في حالة ذهول.
كنت أتابع العمليات الحسابية عبر الآلة الحاسبة التي في هاتفي فتظهر النتيجة صحيحة، العملية الحسابية تصل أحياناً إلى أرقام بالآلاف، سواء عملية ضرب أو جمع أو قسمة.
ولكي أتأكد  من ذلك، سنحت لي فرصة الاقتراب منه أثناء توقف الحافلة في المحطة الثالثة من الرحلة، طلبت منه حل مسألة ضرب 1777 في 3، فأذهلتني سرعة إجابته، في وقت قياسي جدًا أقل من 30 ثانية.
الغريب أنّ هذه الشخصية الشابة، تولت قيادة الحافلة لمسافة أكثر من 7000 كيلو متر دون مساعدة من أحد، لم يشعر بالتعب، ولم يسترح إلا خلال محطات تعبئة الوقود وأداء الصلاة وتناول الوجبات. الجميع تفاعل معه بالعمليات الحسابية، وهم في ذهول.
 مثل هذه المواهب بحاجة إلى صقل، وتأهيل، والمساهمة في مشاركتها بالمسابقات الرياضيات العالمية، لتمثل السلطنة، موهبة بحاجة الى الاعتناء والاهتمام بها، ربما يستفاد منه في مجال المحاسبة في قطاع البنوك، لسرعة معرفته بالأرقام والحسابات.
لا نستغرب من ذلك، قد تكون هناك مواهب غائبة، تكتشف بمحض الصدف، وقد تموت مع صاحبها، فكما قيل،"مواهب وأفكار تموت مع أصحابها ".فعلى وسائل الإعلام المرئية أن تسلط الضوء عليها ليراها الجميع.
بالعودة إلى الكتابة أثناء السفر، فهي تعد بالنسبة لي متعة، تكشف لك جوانب أخرى من الحياة، فقد تصادف وجوهاً جديدة لديها أفكار متميزة، تشاهد مناظر خلابة تعيد إلى الذهن نشاطه، وترد إلى النفس ثقتها.
 
النظر إلى الطبيعة عبر نافذة الحافلة الزجاجية تشعرك بقدرة الخالق في تكوينها، فالجبال التي تمر عليها تراه جامدة بل هي تمر كمر السحب، لكن لا نشعر ولا نرى تلك الحركة. في قوله" وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنّه خبير بما تفعلون"  .
في المساء، القمر يطل علينا بضوئه الشاعري، يرافق الحافلة، وكأنه حارس ليلي يُنير الطريق الخالية من الإنارة في بعض الأماكن من الطريق. فيما تصطف الأشجار على جانبي الطريق، كأنها طابور لثلة عسكرية اصطفت للتفتيش.
في منتصف الليل خيم الصمت على ركاب الحافلة، لم أسمع إلا حديث السائق ومرافقه، يتجاذبان أطراف الحديث ليبعدا عنهما شبح النوم.
 
حاولت النوم، عيوني رفضت استقباله؟  متعة السفر والمناظر التي أشاهدها غلبت عليها، فظلت طوال رحلة العودة تتأمل الليل، ومسافة الطريق، القمر ونوره؟ السماء ونجومها، النظر إلى القرى الهادئة، المحاذية للطريق، لا ترى منها سوى الأنوار المتلألئة.
في النهاية غلب على عيني سلطان النوم، لم أفق إلا على مكبر الصوت الصادر من قمرة قيادة الحافلة يعلن عن موعد أداء صلاتي المغرب والعشاء في أحد المساجد، كان ذلك الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الثلاثاء بعد أن ودعنا المدينة المنورة عقب صلاة فجر نفس اليوم .
استعاد الجميع نشاطه من عناء الجلوس على المقاعد وبعد أداء الصلاة انطلقنا، تناولنا أطراف الحديث الذي أضفى عليه طابع الفكاهة والمرح بين المعتمرين، آخذا الى التلاشي والعودة إلى النوم.
عدت إلى كتابة المقال إلى أن اقتربنا من نقطة عبور أحد منافذ الدولة  المجاورة، استعداداً للتفتيش كان ذلك الساعة الخامسة والربع صباح يوم الأربعاء لتكون أول صلاة فجرها في مسجد ولايات مُحافظة البريمي
بعدها أشرقت الشمس بأشعتها الساطعة على أرض بلادي الحبيبة بعد رحلة غياب استمرت أكثر من ثمانية أيام، يسبقنا شوق الحنين إلى الوطن ولقاء الأهل والأصحاب بعد أداء مناسك العمرة، نسأل الله أن يثبت أعمالنا  لتضاف إلى رصيدنا بالأجر والثواب عنده سبحانه وتعالى.
راشد البلوشي
almeen2009@hotmail.com