ماهية الخِطْبَة (1)

نادية المكتوميَّة

كثيرا ما يَرِد تساؤل حول ماهية اختيار شريك الحياة؛ الأمر الذي يُؤرِّق الكثير من الشباب والفتيات المقبلين على هذه المرحلة الانتقالية المهمة في مسار حياتهم، وقد يُشاركهم التساؤل الآباء والأمهات باعتبار الزواج مشروعا اجتماعيا مشتركا، يتشاطر فيه هؤلاء الأطراف المسؤولية وشرعية اتخاذ القرار؛ تمهيدا لزواج ناجح منطلق من رؤية صائبة، وفكر ناضج مستنير.

ومن غير المقبول تماماً أنْ يكون اتخاذ قرار مصيري قائم على ضربة حظ، أو يظل تحت وطأة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى من الأصنام المجتمعية التي يجب أن تتكسر لو وجدت؛ في سبيل الرقي بثقافة الاختيار لشريك الحياة، فنجد أحيانا كلما زادت المجتمعات محافظة، كانت الخطوات المبذولة لإنجاح الزواج أقل فاعلية، وكلما اقتربت من الطرح النبوي الكريم كان حريا بأن تكون بداية صحيحة موفقة، فالزواج علاقة قداسة تمتد إلى الآخرة، لقول النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ حيث يقول "عائشة زوجتي في الدنيا والآخرة"، وهي علاقة ينصهر فيها الذكر والأنثى انصهارا لا ينصهر فيه الواحد منا مع أمه، أو أبيه، علاقة عميقة متجذرة من نوع خاص، إن لم يتم التهيؤ لها بالدرجة الكافية تصبح مختلة؛ فمن الإجحاف بحق جميع الأطراف وحتى الأبناء لاحقا أن يكون الاختيار ضربة حظ، أو نتاجا لطرح مجتمعي شط عن الطرح النبوي.

تعدُّ الخِطبة جزءا مهما من عملية الاختيار، قد يستغرب البعض كيف تكون الخِطبة جزءا من الاختيار! لأن بعض العادات والتقاليد تعتبر الخطبة جزءا من مراسم الزواج أي الضوء الأخضر للموافقة على كلا الطرفين والرجوع للوراء غير وارد بعد أن يتقدم الشاب للخطبة، فترفض رفضا تاما تقدم شاب لخطبة الفتاة كجزء من مقدمات الاختيار بل يعتبر الخطبة موافقة على الشاب أو الفتاة وتعقد فيها الاتفاقات على الصداق وغيره من ترتيبات الزواج، هل هذا الأمر صائب؟ دائما أقول التصادم مع عادات وتقاليد المجتمع غير محبذ خاصة إذا وجدت طرق لتفادي هذا التصادم،، فإذا تمت ترتيبات خطبة غير رسمية ولكن بطرق شرعية تتوافق مع قيم الدين الإسلامي فلا بأس من اعتبار الزيارة الرسمية المعلنة للخطبة هي زيارة اتفاق لترتيبات الزواج، وما نحذر منه هنا هو اعتبار الزيارة الأولى للخطبة هي بمثابة موافقة دون أن يتسنى لكلا الطرفين الرؤية الشرعية وغيرها من أمور تستدعيها الاختيار في مرحلة الخطبة، وهذا ما نحذر منه لأنه يشط عن الطرح النبوي المحمدي؛ فما زلنا نسمع في بعض الثقافات بأن الزوج لا يرى الزوجة إلا في ليلة الزفاف أو يراها بشكل عابر رغم انفتاح المجتمع العصري كل ذلك نزولا عند قيود الثقافة المجتمعية وأقولها لا قداسة للعادات أما الدين فالأصل في الخطبة من وجهة شرعية هو اختيار كل طرف للطرف الآخر والتعرف عليه في النور وتحت مظلة الشرع لكي لا يضطر الشاب أو الفتاة القيام بهذه الخطوة في الخفاء وتهيئة الأجواء لاختيار سليم في ظل القيم الإسلامية وبدون خلوة وتحت نظر الأسرة لكي لا يقطع الشاب أو الشابة مرحلة قبلها في الخفاء تؤثر عليهم ربما سلبا في حياتهم القادمة، ومتى ما اقتربنا بمرحلة الخطبة والاختيار من الطرح النبوي كلما أسسنا لزواج يشعر فيه الطرفان بقداسة هذا الرابط وإتاحة فرصة لهما للتدقيق والاختيار بنفس مطمئنة بمعية ومشورة أسرهم، خوفا من العادات والتقاليد التي تعتبر الخطبة جزءا رسميا على الموافقة، من تأملي للطرح الشرعي والنفسي هناك ثلاث مراحل تمر بها مرحلة الاختيار تباعا.

أولا: الرؤية والتفكير، والتي هي بمثابة النظرة المقطعية العابرة. ثم الاستشارة والسؤال، يليها مرحلة الاستخارة. هكذا يجب أن تكون النظرة في الاختيار نظرة متدرجة شمولية متأنية وهذا هو مجمل مرحلة الخطبة. ومن الضروري أن نفصل في كل مرحلة لسبر كنه المرحلة واستبصار متطلباتها، وأهميتها في مرحلة الاختيار، فمرحلة الرؤية الشرعية مرحلة مهمة، يجب على الوالدين والمتقدم للزواج والمتقدَم لها عدم إغفالها، وإعطائها حقها ووقتها، حيث تستدعي طبيعة هذا المرحلة زيارة المتقدِم لرؤية الفتاة، حتى تتمكن هي وأهلها من الرؤية والتفكير. ويتم في هذه الزيارة عادة تلمس كل الأطراف لطبيعة الشاب، وطبيعة الفتاة، منطقهما في التفكير، وليس بالضرورة التركيز على تفحص مستوى التفكير؛ لأنَّ مستوى التفكير يحتاج لجلسات عدة، ولا يعد مطلبا أساسيا في هذه المرحلة، فبمجرد الخروج بانطباع عام أولي حول الطرف الآخر يكفي في المرحلة الراهنة، ويسفر اللقاء الأول غالبا عن شعور بالارتياح للطرف الآخر، أو نفور منه، أو احتياج لزيارات أخرى لتلمس هذا الشعور، وتمهد للمرحلة التالية.

ويتمُّ في اللقاء الأول عادة دخول الفتاة بزيها المعتاد ولا داعي هنا تدخل البنت صينية العصير أو القهوة فهي عادة ستكون مرتبكة وقد توقعها من يدها كما نرى في الأفلام. أيضا من الذكاء هنا أن يفسح الآباء للمتقَدِم وللفتاة المجالَ في الحديث، كأن يستأذن الأب بالخروج لإحضار غرض ما؛ مما يتيح المجال للطرفين بأريحية النظر، والحوار، ولا تعتبر هذه خلوة فالباب مفتوح، والأب موجود، والشاب جاء ليشرُف ويتشرف بخطبة هذه الفتاة، كما أنه من الذكاء أن يلتفت الشاب ليعطي الفتاة مجالا للنظر ليسهل الأمور بما يطمئن نفسها. وهناك العديد من الإشكالات التي يجب الانتباه إليها في هذه المرحلة، منها اشتراك الوالدين، والأخوة، والأخوات أحيانا مع الفتاة في إعطاء انطباعاتهم حول الشاب، وقد يسأل سائل قائلا: "لن تتزوجه الأم أو الأب أو الأخ فلماذا؟"؛ فأقول إنَّ تعدد الانطباعات مطلب مهم جدا، فكلٌ ينظر من زاويته ومن بعده الشخصي في تمحيص الأمور، فقد يركز أحدهم على هندامه، وآخر على نمط تفكيره، وثالث على مكنونات كلامه؛ مما يحقق نظرة تمحيصية دقيقة تتسم بالشمولية والتكامل. وأقول هنا بأن شعور الفتاة أو الشاب بالنفور أحيانا ليس مدعاة للرفض، فقد يحاكي ذلك الإنسان للطرف الآخر خبرات طفولية منفرة، كوجود شبه بينه وبين شخصية في ذاكرة الطفولة أدت لذلك النفور، أو عكس ذلك في القبول، وبالتالي قد يحتاج كلا الطرفين لمزيد من الزيارات التي ستساعد على الاطمئنان والشعور بالارتياح تمهيدا للخطوة التالية في آلية الاختيار.

الحديث حول مرحلة الخِطبة كما في الطرح النبوي، حديث ذو شجون، نُكمله -بعَوْن الله- في المقال القادم.. دُمتم بفرح بجوار من تحبون.