المدير الذي أصرّ أن يقول ما لا يقال

 

 

زينب الغريبية

 

كان مقال الأسبوع الماضي "رسالة امرأة: إذا أردت أن تكون شيئا فاستعد للتحدي"، مصدر ألم لكثير من الذين كتبوا لي لأنّهم وجدوا أنفسهم في نفس المأزق الذي مرت به تلك المرأة التي استعرضت رسالتها، وهو مأزق يبدو أنّه بات قاعدة في كثير من المؤسسات التي يحاول البعض صرفها عن أهدافها الحقيقية، التي يتطلع المستفيدون منها أن تكون دائمًا ناجحة، ولكن بعضها للأسف يركز فقط كما وصف أحدهم في تعليقه على "نصب الأفخاخ" اليومية لإعاقة الذين يعملون بكامل طاقاتهم لتحقيق ما يمكن أن تفخر به مؤسساتهم، وتعمل على تطويع القانون لتحقيق ذلك، فيتحول القانون من أداة لحراسة العدالة والمساواة داخل المؤسسة إلى أداة لعرقلة هذه العدالة والمساواة، فتخسر المؤسسة على كافة المستويات البشرية، والمالية، إنّ ما استوقفني في كل ما وصلني من تعليقات، كانت حكاية واقعية لأحد المديرين في إحدى الدول العربية حيث وضع على مؤسسة أقسم فيها على أن يؤدي المسؤوليات الموكلة إليه وأن يحافظ على مصلحة وطنه تحت أي ظرف يمر به، وذهب بعد هذا القسم إلى مكتبه، وبدأ فورا يخطط من أجل تحقيق الأهداف الموضوعة له، ومضت الأيام وهو يعمل وينجز، ويواصل تحقيق ما أوكل إليه، واستقطب حسب القانون بعض الأموال لتحقيق المهام التي يفترض أن ينجزها، وأضفى ذلك نجاحا آخر لقدراته، وكان يتوقع أن يصله شكر وتقدير من الوزير الذي يعمل تحت إمرته، ولكن خاب ظنه في ذلك، وبدأت كثير من الرسائل المتعلقة بالعمل والمستعجلة تقف عند الوزير فلا يوقعها، وعندما بدأت الأمور تتفاقم حاول أن يقابل الوزير الذي يرفض مقابلته، وبدأ البعض ممن حوله يحيكون بعض الشكاوى ضده، ويؤلبون الوزير ضده، ويقولون إنّه يستحوذ على العمل لنفسه، ويرأس كل اللجان، ويلبي الدعوات الرسميّة بنفسه بدلاً من أن يشرك الآخرين، عندها شعر أنّ هذا الصراع يتطلب منه أن يكون مستعدا ويقظاً دائما، وأنّ الذين بدأوه لن يهدأ لهم بال حتى يصعدوا الأمور.

الشيء الملفت في هذه القصة أنّه رغم ما كان يعيشه هذا المدير في محيط عمله من تربص من بعض الموظفين التابعين للوزير، إلا أنّه لم يوقف أي عمل يقوم به، إنّما قرر أن يواصل الأعمال التي بدأها ويحاول إنجازها حتى تحل هذه الإشكاليات التي يواجهها، إلا أنّه اكتشف أن الأمر أبعد مما نتخيله حيث استمر هؤلاء يحرضون الوزير يوما تلو الآخر، ويبعثون له بالرسائل، واستمر هو أيضا يبعث له بالرسائل يحثه فيها على دعمه من أجل صالح العمل، إلا أنّ رسائلهم كانت تصل ورسائله لا تصل، عندها قرر أن يبدأ في توثيق الرسائل، والوثائق التي تمر عليه، وأخذ نسخ احتياطية منها في مكان آمن، وقرر أن يعمل أبعد من ذلك، أي كتابة رسالة إلى الرئيس يذكره فيها بأول خطاب له عندما تولى الرئاسة حيث قال فيه أنه لن يسمح للأيادي الآثمة بأن تعيق من يعملون لصالح الوطن، وأنه سيعمل على قطع أي يد تمتد لتعبث بمصالح الوطن، فصاغ تلك الرسالة وهو إنسان متمكن صاغها بطريقة تدعو إلى حمايته بالقيم التي أكد عليها الرئيس، تلك القيم التي قال عنها إنّ أي وطن لا يمكن أن يضعف إن التزم بها، انتهى من كتابتها وعمل على إرسالها إلى مكتب الرئيس، ولم يكن ضامنا أنها ستصل، كان يقول لو أن كل رسائل المواطنين المخلصين وصلت للرؤساء لما عاث كثير من المتنفذين فسادًا في أوطانهم، ولكن هي رسالة لتبرئة الذمة، حتى لا يقال حين أُقال، لم أسمع عنك وإلا لن أسمح بذلك، بل افترض أنك قد سمعت والدليل هذه الرسالة.

 وبدأ في أرشفتها وكتابة خلفيّاتها وتفاصيلها، تحسبا لتدهور الأمور أبعد مما يتوقع، وبالفعل كانت توقعاته كانت في محلها، حيث عمل الوزير على إقالته بدون سابق إنذار متهما إياه بعدم الأمانة والمصداقية، وعدم الحرص على المصلحة الوطنية، وخرج الوزير على شاشة التلفزيون وألقى بتهم ليس لها أساس، وطلب منه الذهاب إلى التلفزيون للدفاع عن نفسه وتفنيد ما ذكره الوزير، وذهب لكن لم يغير ذلك شيئا من الإقالة، التي أفرغت المكان من شخص يعمل، وسلم الأمر إلى مديرة أخرى قريبة من الوزير ولم تكن تحمل أية مؤهلات للقيام بالعمل، لكن لم يكن العمل مهما لمثل هؤلاء الذين يمارسون مثل هذه الأساليب، وفي الوقت الذي ظن فيه هؤلاء أنّ الأمر انتهى، وأنهم انتصروا، فاجأهم هذا الرجل بكتاب نشر فيه كل التفاصيل التي مرّ بها، بالوثائق التي كان يجمعها، وحكى فيه كل التفاصيل التي جرت والتي لا يمكن لأحد أن يتخيل أن تجري في مؤسسة، ونشر فيه كل الأدلة والمشاريع التي كان يعمل عليها، رحل الوزير ومن حوله.. وبقي هذا الكتاب شاهدا حياً على ما قاموا به من عمل ضد الصالح الوطني، واستمر هذا المدير من نجاح إلى آخر في حياته العملية خارج إطار تلك الوزارة التي لم يشأ القائمون عليها الاستفادة من قدراته، ولم تزعزع مكانته التي أرادوا زعزعتها.

فالشر وإن تقوّى، فقوته ضرورة لاختبار مدى صمود الخير، ولكن حسب القوانين الإلهية، لا يصح إلا الصحيح، مهما طال زمن الظلام؛ وإن شعر من بيده السلطة بالنصر، فليتأكد أنّ ذلك النصر لن يدوم.