المشاريع الفلكية .. تسمين وتفقير

 

د. عبد الله باحجاج

عنوان مقالنا يتناغم مع مقال الزميل حمد بن سالم العلوي المعنون باسم، الأرقام الفلكية للمشاريع، بل إنِّه من وحي مقارناته بين المشاريع الحكومية ونظيراتها التي تنفذ من قبل الشركات والأفراد، والفارق السعري بينهما فلكي، وقد هزتنا مقارناته بين المشاريع، كما أثارتنا كيفية حسم المشاريع داخل لجنة المناقصات.. إلخ فهذه قضايا تستنزف موارد بلادنا مهما تعاظمت، فكيف لو كانت أصلا محدودة؟ وفي ضوء هذا المقال الهام، نطرح التساؤلات التالية، كيف يستمر هذا الوضع حتى الآن، وهناك أزمة مالية تعاني منها البلاد؟ وكيف لم يسارع مجلس الشورى إلى دراسة نظام المناقصات في ظل الأزمة المالية؟ وكيف تطمئن الأجيال على مواردها المالية في ظل ثقافة المال العام المشاع؟

لا يُمكن لمثل مقال "الأرقام الفلكية للمشاريع" أن يكون عابراً، فعلينا إعادة قراءته لأهميته الوطنية؛ حيث يمكننا توفير سيولة مالية من المشاريع الحكومية إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية لذلك. وهنا ينبغي أن نتساءل: ماذا بعد هذا المقال؟! بالتأكيد، وصل مؤسساتنا، لكن من المؤكد كذلك، أنَّه قد دخل في غياهب اللامبالاة، وهذه عادة كل المقالات بل كل التفاعلات التي تظهر فوق السطح، وتدق ناقوس الخطر، فليس هناك من يُتابع الخيوط التي تفتحها هذه المقالات، فهى تصبح سريعًا كصرخة في وادٍ سحيق في الوقت الذي يتغنى الكل بالترشيد والعقلانية، لكن ذلك يتم فقط على حساب لقمة المواطن، ومستقبل أبنائه، ولم يتم الاقتراب من هذا الملف أبدًا رغم حمولته المالية الثقيلة. لقد جاء مقال "الأرقام الفلكية للمشاريع" بمثابة صرخة مُجتمع في توقيتها المُناسب، لكي يظل حجة يُحاجج بها في وجه المسارات المالية الحكومية التي تنصب جلها على تحميل المواطن ما لا يقدر أصلاً على تحمله، بينما تظل الحكومة تصرف الأموال العامة بسخاء وكرم حاتميّ على الشركات الخاصة، وكأنّها لا تزال تعيش في عصر النفط الذهبي. المقال لم يوقظها من سُباتها العميق، ولن يوقظها، وهي الآن في حاجة إلى وسائل ضغط "دستورية" عالية المستوى حتى يكون ملف المناقصات، ضمن الملفات التي ينبغي مراجعتها وتصويبها وفق الظروف المالية للدولة الجديدة والمستقبلية. فلن يقبل العقل أن تكون القيمة المالية لمبنى صحي مُتعدد الطوابق يحتوي على عيادات ثلاث، وعدة أقسام متخصصة (8) ملايين ريال عُماني بينما بلغت تكلفة مسلخ الخوض (10) ملايين ريال. إنها مفارقة استدلالية رائعة يُقدمها المقال خاصة عندما قارن بين أهمية المرفقين من خلال هاذين الرقمين، الأول بالنسبة لصحة الإنسان وديمومتها، وقيمته أرخص، والثاني، يتعلَّق بذبح الحيوان، وقيمته أعلى. فالمشروع الخيري المقدم من الشيخ سهيل بهوان إلى وزارة الصحة، يكشف المُفارقات السعرية، ويرمي بالكرة في ملعبي الحكومة ومجلس الشورى، ونعتقد أنَّ المعني الأول هو مجلس الشورى، فهذا ملعبه الأساسي. واستمرارية الوضع الحالي يفاقم من تفقير المجتمع، وهذه فرضية قائمة إذا ما حافظت المشاريع الحكومية على فلكية قيمتها المالية في ظل سياسة تفقير المجتمع، فماذا بعد التفقير؟!

إنَّ وضعنا المالي يُحتم خفض التَّكلفة المالية الفلكية للمشاريع الحكومية بسبب الأزمة المالية، وهذا يحدث في الكثير من الأنظمة أثناء الأزمات، وحتى بصرف النَّظر عن وجود أزمات، فالعقلانية والترشيد، مسألتان ضروريتان في حد ذاتهما للمُحافظة على موارد الدولة، لكن يبدو أنَّ واقعنا لن يمس بصورة إرادية أي طوعية ما لم يمارس عليه ضغوطات قوية وفي إطار المؤسسات الدستورية. وهذه فرصة مجلس الشورى الآن للقيام بدراسة التَّكلفة المالية للمشاريع الحكومية، وآلياتها، وطُرقها، ودور المكاتب الاستشارية الأجنبية في استنزاف الأموال العامة، ومن ثم تقديم نظام مُتكامل وحديث للمناقصات يستوعب المواصفات الفنية المحلية للمشاريع، ومرن يتماشى مع الظروف المالية للدولة. لقد فتح مقال الزميل العلوي الطريق الآن أمام أعضاء مجلس الشورى، فهل سيمشون فيه أم أنّ ممارستهم ستنحصر في ردود فعلهم على السياسات المالية والضريبية للحكومة؟!

يضعنا ذلك المقال أيضا أمام ضرورة حوكمة الحكومة وشركاتها وهيئاتها، في تواز مع التوجه الجديد/ القديم نحو صناعة قوتنا الاقتصادية دون النفط. والحقيقة المؤكدة هنا، أنّه على الرغم من تبني البلاد للكثير من الأنظمة واللوائح، إلا أنّ موقعها في مؤشرات نظم الحوكمة ما زال أقل من المأمول، فحركة تقدمنا في مكافحة الفساد يُعبر عنها سنوياً تقرير عالمي يصدر عن منظمة الشفافية العالمية. وفي تقرير 2014 احتلت بلادنا المركز (64) عالميًا، وفي عام 2015، تقدمت إلى المركز (60)، وهذا يعكس فعلا وجود جهود لمكافحة الفساد، لكنها ليست بتلك الطموحات السياسية والمجتمعية. ويركز مؤشر المنظمة على الفساد في القطاع العام، وتعرفه- أي الفساد- باستغلال السلطة لتحقيق مكاسب خاصة، بينما يعرفه البنك الدولي بأنّه إساءة استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، ولا تميز هذه المنظمة بين الفساد الإداري والفساد السياسي. كما إن الحوكمة مفهوم يعني- ضمن ما يعنيه- حق مساءلة الإدارة وضمان الرقابة على الأداء الإداري والمالي والحد من استغلال السلطة ومنع تعارض المصالح.

إن مقال "الأرقام الفلكية للمشاريع" وما فيه من مُقارنات من حيث القيمة المالية بين عدة مشاريع حكومية وخاصة، يرشدنا إلى مسار يمكن من خلاله توفير سيولة مالية كبيرة للبلاد إذا ما توافرت فعلاً الإرادة الحقيقية لذلك، ولن تتواسفر هذه الإرادة إلا إذا أعدت المؤسسات الدستورية دراسات مُقنعة تقدمها للمسؤولين لإظهار حجم الضرر المالي للتقديرات المالية الراهنة للمشاريع الحكومية، مقارنة مع نظيراتها التي تقام خارج الإطار البيروقراطي، على أن تقدم نظاما جديدا يراعى فيه مجموع المصالح العامة والخاصة، ويمنع مثلاً ممثلي الحكومة من أن يكونوا أعضاء في أكثر من مجلس أو لجنة، وعدم بقائهم في عضويتها أكثر من دورتين متتاليتين .. إلخ من الإجراءات التي تضمن الشفافية. وعلينا التأكيد أخيرًا، أنه في مناخ الحوكمة الضعيفة تزداد حوافز الفساد وضياع الأموال العامة ويؤدي إلى غياب البوصلة سواء لدى المواطن أو الحكومة. ومن هنا.. فبلادنا في أمس الحاجة إلى حوكمة فاعلة وفعَّالة، تحفظ المال العام عبر تعزيز الرقابة والمساءلة والشفافية في الأجهزة الحكومية كافة.

الأكثر قراءة