كذبة أشعب.. والقطيع

عبدالله العجمي

من منا لا يعرف أشعب بل ويتذكّر الكثير من حكاياه وطرائفه.. هل تذكرون قصته الشهيرة حينما أراد أن يستغفل عقول قومه وقال لهم ممازحاً كاذباً: إنّ هنالك وليمة كبيرة وضخمة أقامها أحدهم أسفل الوادي.. فما كان من النّاس إلا أن هرعوا بلا تدبّر إلى أسفل الوادي.. ولأنّ عدد الذين صدّقوا كذبته فاق المتوقع.. فقد أصبح الطريق إلى أسفل الوادي مزدحماً لدرجة أنّه لم يبق فيه موطئ قدم.. أما أشعب فقد هاله هذا المنظر وأخذ الشك يساوره وصارت نفسه تحدثه: لربما كانت هناك وليمة حقا وأنا لا أعلم.. فما لبث إلا وقد أطلق العنان لرجليه يقوده جشعه إلى عزيمة لا وجود لها.. فمنظر انسياق الناس وراء كذبته بهذه الصورة اللامتوقعة جعله يصدّق كذبته التي هو أطلقها في الأساس..

ولربط القصة بموضوع المقال.. فلنأخذ جولة ولو سريعة على شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات لا سيما العربية منها.. سنراها - حتماً - حلّت محلّ أشعب في عصرنا هذا، فقد صار الانقياد والمسايرة منهجاً لدى الكثير بسببها.. وأصبحت الصورة ذات تأثير مذهل يتجاوز تأثير الكلمة.. خاصة إذا أخذت تلك الصورة حقها من التعديل والفبركة.. وليس مبالغة لو قلنا أنّه أصبح لدى تلك القنوات القدرة على تنويم متابعيها مغناطيسياً، حيث يسهل عليها خداعهم وتضليلهم والتأثير عليهم لدرجة أنّهم لا يتقبلون إلا ما تمليه عليهم تلك القنوات أو المواقع، ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال تقبل فكرة الشك أو النقد فيما يُعرض عليها. خاصة في ظل الفوضى العارمة التي تسود العالم العربي فإنّ هذه الجماهير لا تميل إلى التأمّل والتدبّر والتحقق فيما يعرض عليها، بل تميل إلى الانقياد حالها حال غالبية المجتمع..

ولو نظرنا نظرة تأمّل للشعوب العربية لوجدنا أنّها عاطفيّة بطبيعتها وتميل إلى التأثر بما حولها ومن المريح لها مواكبة التيار بدل السباحة ضده.. وهي تركيبة متجذرة في أذهاننا وجيناتنا.. في حين نجد أنّ الثقافة الغربية قد تحررت - في الغالب- من مثل هذه المنهجية في التفكير ليصبح الفرد فيها مستقلا بذاته يحكّم عقله قبل الانجرار خلف فكرة ما.. وما أحوجنا نحن إلى ذلك، فمنهجية القطيع اللاواعي المتّبع لمبدأ الطاعة العمياء يتوجب علينا الخروج منها إلى منهجية الفرد الحرّ التفكير والمُدرك للمخططات التي تحاك ضد وطنه وأمّته، ولا ضير في بذل مجهود ولو بسيط في التفكير والتحليل لما تُطالعنا به هذه القنوات ومحاولة تبيان الصحيح من الخطأ.

ولعلّ من أبرز أمثلة سلوك القطيع في مجتمعاتنا .. عندما يقوم شخص بتمرير رسالة أو نشر صورة أو مقطع دون التأكد من صحّة ما يُتداول، وحتى الردود عليه؛ غالباً ما تأخذ نفس الطريقة والمنهجية.. فإذا كانت الرسالة ساخرة من مشروعٍ أو أداء أو مسؤول حكومي مثلا سنراها -أي الردود- تارة مع الحكومة عندما تقتضي المصلحة وتارة ضدها إذا تعارضت مع ذات المصلحة..

ولو كانت عقلية القطيع هذه قد وُلدت وقُطع حبل سرّتها في أزمان سابقة؛ حيث كان طلب المعلومة يستنزف الجهد والوقت، لندرة الكتب والمكتبات، لقلنا خلاف ما قلناه ولقدّمنا العذر قبل النقد.. لكن أن يحصل هذا في زمن فيه الحصول على المعلومة والتحقق منها لا يحتاج منا أكثر من نقرة زرّ!! فلا سبيل لرفع العتب عن هكذا ثقافة أو تجاهلها وغضّ الطرف عنها.. ولو أنّ البعض ربما يعزو ذلك إلى أن انتهاج هكذا سلوك قد وفّر مهرباً للتملّص من المسؤولية فنراهم يفضفضون فقط من خلال القطيع إذ لا مسؤولية ولا هم يحزنون. لكنه عذر أشبه بالهرب من مواجهة الواقع.. بحيث إنك لو سألت أحدهم لماذا فعلت هذا؟ لأجاب على الفور: والله يا خي حالي من حال الناس!!

فلِمَ لا نحاول أن نحدّ من تنامي ثقافة القطيع في مجتمعاتنا؟! ونقلّل من وهج الاصطفاف اللامسؤول واللا محدود خلف مثل هذه القنوات ومواقع التواصل.. ولم لا نُحكّم عقولنا قبل عاطفتنا كما أمرنا ديننا الحنيف.. أو ما علمتم أنّ القرآن الكريم لم يذكر "العقل" كمصدر بل كررّه 49 مرة كفعل لأهمية إعمال العقل.. إذ لا أهيمة لعقل إن لم يعمل ويفكّر ويتدبّر، وليؤسس كل فرد منا منهجيته المستقلة في تقييم ما يرد إليه وما يصله ويخرج عنه..

فلا ضرر من بعض الشك الإيجابي في مثل هكذا أمور حيث إنّ هذا الشك الإيجابي هو محامي اليقين في مثل هذه المواقف، فهناك حسابات وهمية لا حصر لها تتاجر بمشاعرنا وأحاسيسنا وتحاول أن توجّه تفكيرنا إلى ما تبتغيه وتخطط له.. ولنبتعد عن خطّ التقليد الأعمى ولنخرج من بعض معتقداتنا الاجتماعية السائدة والايديولوجيات المستوردة ولنرسم خطاً مستقلا وقراراً حرّاً يمثلنا دونما إيعاز أو توجيه من أحد. ولنعِش حياتنا كما نريد لا كما يُريدون!.

[email protected]