نحو تطوير سوق المال

 

 

 

عمَّار الغزالي

 

مع كل "مُنخفض اقتصادي"، أو هزَّة مالية عنيفة، تكون القِبلة دائمًا نحو خطط وإستراتيجيات تعزِّز فُرص "التنويع"؛ تُترجَم في صورة مشاريع ومحفِّزات جديدة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام. وعلى الرغم من منطقية هذا التوجه كحلٍّ طويل المدى، إلا أنَّ فترة تنفيذه وانتظار نجاحه ومساهمته في دعم الناتج القومي تستوجب -جنباً إلى جنب، وبالأهمية والعزيمة ذاتها- إعادة النظر في مشاريع أو كيانات قائمة، غير أنَّ بعض سياساتها بحاجة لتعديلات تعزِّز مردودها الإيجابي. ولعلَّ من أهم وأعمق نوافذ الأمل تلك "أسواق الأوراق المالية"؛ والتي أصبحت اليوم قوة مهمَّة في العديد من الدول، وحلقة ضرورية لربط حلقتي الاستثمار، وعنصراً مهمًّا لتأمين السيولة الضرورية؛ باعتبارها أكبر وعاء استثماري مقّنن؛ ولتأثيرها القوي على معدَّلات النمو؛ فترتفع بذلك قدرة الدولة على توفير السيولة سواءً للمشاريع الوطنية ذات البُعد الاقتصادي، أو تسهيل توفير سيولة للقطاع الخاص نفسه.

فأسواق المال تُعتبر قاعدة التكوين المالي في أي مجتمع؛ فمن خلالها يتم التعبير عن احتياجات الاقتصاد من الموارد المالية والاستثمارية، وتعكس حركتها الوضع الاقتصادي وتوجهاته المستقبلية.

وفي السلطنة، وفي ظل هذا الحراك الواسع لضمان إيجاد صيغة مستقبلية أكثر تنوُّعًا لاقتصادنا الوطني، يُثير الاستغراب أنَّه -ووسط هذا الكم الهائل من المبادرات- ما زال الحديث عن سوق المال ضعيفاً مقارنةً بإمكانياته المتاحة، وتغيب الدعوة لطرح شركات مساهمة عامة جديدة تعمل على إحداث حالة من الانتعاش الاستثماري؛ خصوصاً وأن الأرقام الحالية تعكس أداءً متقلبا بين صعود وهبوط؛ فعلى سبيل المثال كان المستوى الأفضل لحركة السوق هذا العام في مايو الماضي عند 104.2 مليون ريال، ثم هبط في يونيو إلى 3ر66 مليون، وبلغ 61 مليون في يوليو، ثم 7ر62 مليون في أغسطس، ليصل في سبتمبر إلى أدنى مستوياته عند 4ر54 مليون ريال، ليعاود الصعود في أكتوبر إلى 5ر77 مليون، ثم نوفمبر عند 79 مليون ريال تقريبيًّا، والمتابع للأسواق المالية للمنطقة يجد أن سوق مسقط ضعيف جداً مقارنةً بأسواق أخرى أصغر عمراً وأحدث نشأةً منه؛ وذلك من حيث حجم التداول وقوة الشركات المدرجة، وقدرة السوق على استقطاب السيولة خارجية وغيرها.

وإحصاءات وقراءات كهذه تعكس في مدلولاتها "تواضع" حجم التجربة لدينا؛ وأننا لم ننجح بعد في حشد المدخرات المحلية والأجنبية وتوظيفها على شكل استثمارات في الأسهم تدعم اقتصاد الوطني على أسس تنافسية -وهو من الأهداف الرئيسية لوجود أسواق الأوراق المالية أساساً- أو أننا لم نصل بعد إلى مرحلة تصويب العادات والممارسات الاستثمارية التمويلية للأفراد والمؤسسات، وخلق حالة مرضية من الوعي الاقتصادي لدى المواطنين؛ الأمر الذي تستتبعه عدَّة تساؤلات تتمحور حول: هل السبب خلل في هيكلية السوق؟ أم قلة عدد المؤسسات الممارسة لعمليات التداول، وضعف صناعة السوق وتغطية الإصدارات؟ أم أننا نفتقد لأدوات مالية حديثة تواكب المستجدات؟ أم أنَّ السبب مُتعلق بالشق القانوني والتنظيمي؟ 

وهي تساؤلات مشروعة تستوجب إيضاحات من ذوي الاختصاص، لا سيما وأنَّ الحديث عن ضرورة إيجاد آليات جذب فاعلة لاستثمارات جديدة، وهي عملية تحكُمها مجموعة مُعقَّدة من العوامل، يأتي في مقدمتها تأهيل ذاك الكيان السوقي الغني بالفرص، الذي تقاس فاعليته بحجم ونوعية المدخرات المستقطبة، وحجم التمويل الممنوح للمستثمرين، بما تصب في النهاية لصالح قدرة السوق على جذب رؤوس أموال جديدة وتنشيطها، بما ينم عن الحركية والدوران.

إنَّ آمالا تُعقد على أن يُسهم سوق مسقط للأوراق المالية في تعزيز فرص اقتصادنا الوطني لتخطي الأزمة الحالية، تستوجب من ذوي المسؤولية وأصحاب القرار ضمان مرونة تشريعية أكبر، تمكِّن أصحاب المدخرات الصغيرة من المنافسة في السوق وتثمير أموالهم؛ والمساعدة في رفع مستوى الوعي التمويلي والاستثماري للأفراد والمؤسسات، وزيادة شفافية وموثوقية المعلومات ذات الصلة بأداء الشركات المدرجة، وجعل السوق مجالا واسعًا للمساهمة في تمويل التنمية، بدلا من أن تكون مجالا مقتصراً على المضاربات فقط، وتحسين فرص وإمكانيات إقامة علاقات ترابط وقنوات اتصال مالية دولية، وتسريع وتسهيل عملية التخصيص، وتوسيع قاعدة الملكية في الشركات الحكومية، وتمكين إدارات الشركات المساهمة العامة من بناء هياكلها المالية الملائمة، والتي تحقق من خلالها أفضل التوازنات بين عنصري الربحية والمخاطرة.. فالأوضاع الحالية تقول بأنَّ أمامنا الكثير مما لم يُنجز بعد، فلنبادر إذن بإحياء وتفعيل كيانات قائمة بالفعل، تتوازى إيجابية مردوداتها مع إستراتيجيات المستقبل.

ولديَّ يقين لا يُخالجه شك بأنَّ خارطة الطريق لتمكين سوق المال للقيام بدوره المنشود واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي من أبجديات مُحفِّزات النمو الاقتصادي لأي دولة؛ فهل سنحتاج إلى برنامج "تنفيذ" آخر ليؤكد لنا ذلك!

ammaralghazali@hotmail.com