ظفار نعم الدار

ناصر الجساسي

في ثمانينات القرن الماضي قرَّر أحد العرسان الجُدد قضاء شهر العسل في ظفار، والاستمتاع بأجواء الخريف المُنعشة والمناطق الجميلة التي تكسوها الخضرة والعيون المائية الجميلة ولكن سرعان ما اعترضه أحد الأصدقاء قائلاً (أنت مجنون – أنت معتوه) تذهب إلى ظفار؟؟

لو ذهبتم إلى هناك سوف.. يختطفونكم..يسرقونكم..يقتلونكم..هكذا سمعت، يومها لم يكن خريف ظفار معروفاً لدى الكثير من النّاس مثلما هو عليه اليوم، ولم تكن ظفار أو صلالة كما ارتبط اسمها مع الخريف وجهة سياحية مشهورة بسبب ندرة الإعلام بكل وسائله وكان هناك اعتقاد لدى البعض بأنّ أهل ظفار لا يجيدون فن التَّعامل مع الآخرين فانتاب ذلك العريس شيء من التردد والخوف من الرسائل السلبية التي سمعها من صاحبه ولكنه ما لبث أن ضرب بتلك الرسائل عرض الحائط وربط أمتعته عازماً الذهاب إلى صلالة، انطلق العريس وزوجته إلى صلالة ورافقهم أحد أفراد عائلتهم فاستقل كل واحدٍ منهما سيارته الخاصة وفي الطريق فقدا بعضهما البعض ونظراً لعدم وجود هواتف أو وسائل تواصل في ذلك الوقت لم يتمكنا من الالتقاء ببعضهما البعض ولم يلتقيا إلا بعد أيام من وصولهما صلالة وكان ذلك بمحض الصدفة وفي أحد أسواق المدينة حينما وصل العريس مشارف صلالة كان الظلام قد خيَّم على الجبال وكانت الرؤية تكاد تكون معدومة بسبب كثافة الضباب فأوقف سيارته على جانب الطريق وفي تلك الأثناء تفاجأ بشخص غريب يطرق عليه نافذة السيارة ويُشير إليه بلهجة جادة.. إلى أين أنت ذاهب ؟؟

فتح النافذة وقال إنّي مُتجه إلى صلالة ..فقال له الرجل الغريب (كان رجلا ظفاريا يرتدي اللباس الظفاري القديم) ألا ترى أنَّ الضباب كثيف ولا تستطيع رؤية الطريق؟؟ لن أدعك تسير بسيارتك في هذه الظروف ثم قام بفتح باب السيارة وركب معهم في الكرسي الذي خلف السائق وأمره بالتَّحرك والخروج عن مسار الطريق إلى جهة حددها هو، حينها دبَّ الهلع والخوف في نفس العريس وزوجته ولم يكن لديهما خيار سوى الانصياع لأوامر الرجل الغريب والتَّحرك بالسيارة دون سؤاله من أنت وإلى أين تذهب بنا ولماذا ..!!

انتهى بهم المسير إلى منزل صغير أشبه بالكوخ وأمرهم بالنزول وحينما نزل العريس وزوجته كانت فرائصهم ترتعد من الخوف ولسان حالهما يقول ما هو المصير الذي ينتظرنا من وراء هذا الرجل وتصرفه الغريب ومما زاد الأمر خوفاً وتعقيداً حينما شاهدوا الرجل الظفاري يحد شفرة سكينه فكادت أرواحهما تفارق أجسادهما من هول الموقف فاستحضر الرجل كلام صاحبه الذي كان يحذره من الذهاب إلى صلالة.

 وفي تلك الأثناء نادى الرجل الظفاري على أحد أبنائه ممن كان معه في منزله الصغير وأعطاه السكين وقال له اذهب واذبح لنا واحدة من الماعز وسوف أقوم أنا بتجهيز الحطب والنار إلى أن تنتهي من الذبح .. عندها هدأ روع العريس وزوجته وفهموا أنَّ الظفاري كان يحد شفرة السكين حتى يكرمهما بعشاء مُحترم.

 بعد أن تناول الجميع وجبة العشاء تقدم الرجل إلى الظفاري يشكره على كرم الضيافة والاستئذان بالانصراف ولكن لم يسمح لهم الظفاري وأجبرهما على المبيت معه بالمنزل وكانت بالنسبة لهما صدمة أخرى فكيف لهم أن يبيتوا معه والمكان ضيق وغير آمن؟!

لم يكن بإمكان الرجل إلا الانصياع مرة أخرى لأوامر الظفاري فنام الجميع في غرفة واحدة ولكن حقيقةً لم ينم الزوج وزوجته وبقيا مستيقظين طوال الليل خوفاً من أن يحدث لهما أيّ مكروه.

انبلج الفجر وبدأ ستار الظلام ينزاح من على جبال ظفار الجميلة ترافقه زقزقة أصوات العصافير والمراعي الواسعة ووجد العريس وزوجته أنفسهما وسط جنة خضراء تحيط بذلك بالبيت الصغير، وفي خضم انشغالهما بجمال الطبيعة كان الظفاري مشغولاً بتجهيز الفطور لضيوفه. بعد أن تناول الجميع وجبة الإفطار قال الظفاري الآن وبعد أن تأكدت من وضوح الرؤية بالطريق سوف أسمح لكما بالمغادرة وسوف يرافقكما أحد أبنائي إلى مدينة صلالة وسوف يأخذكما إلى بيتي هناك، أسكنوا فيه وخذوا راحتكم وكان قد أعطى ولده مبلغاً من المال ليشتري من السوق بعض المواد الغذائية ويضعها في البيت...الظفاري تعدى حدود الكرم  وهو لا يعلم أنّ الرجل وزوجته جاءا بمعتقدات ورسائل سلبية عن أهل ظفار وكأنّه يبرهن لهما ولصاحبهما أن حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً، هنا الكرم هنا الأصالة والواقع أفضل من كلام يُقال ويساق دون تثبت وتحرٍ، فكان هذا الكرم الحاتمي بعد هذا الموقف الشهم سبباً وباباً لتوطيد علاقات العائلتين ببعضهما البعض ويقال والعهدة على الراوي أنّ التواصل والزيارات قائمة بين عائلة الرجل الشمالي والظفاري إلى يومنا هذا.

 نعم خريف ظفار جميل ولكن الأجمل منه أخلاق وكرم وشهامة أهل ظفار التي تأسر من تطأ أقدامه جنة الأرض، كذلك الحال في بقية مناطق السلطنة بفضل الله وفضل قيادتنا الحكيمة استطاع العُماني الترويج الأخلاقي الجميل للسلطنة قبل الترويج السياحي وأصبحت عُمان قبلة سياحية تهفو إليها الأنفس يقول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحُسن الخلق.

 وقفة أخيرة: بالأخلاق العالية نسمو ونرتقي بأنفسنا ووطننا وديننا..