في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة (1-2)

 

 

عبيدلي العبيدلي

كعادته المستحبَّة، رفع الخبير الاقتصادي البحريني هاتفه وأشعرني أنه قادم لزيارتي في المساء.  وكعادته أيضا حري على أن نتجول خلال ذلك اللقاء في أروقة السياسة، ودهاليز الأدب، وأزقة الاقتصاد. لكن في هذه المرة كان الموقف حاسما، ويقوم على أن الاقتصاد والهموم المعيشية ينبغي لها أن تتصدر متطلبات مهام المرحلة الحالية في البحرين. وراح يسوق أمثلة رقمية تتحدث عن معدلات الدخل، واحتياجات الإسكان، ومتطلبات الحدود الدنيا، قبل أن ينتهي إلى الخلاصة المنطقية التي تقتضي تقديم الاقتصاد على السياسة في المرحلة المقبلة. وختم كلامه بالقول الاقتصاد لا يحدد مكونات النظام السياسي فحسب، بل يصوغ أيضا شعارات مراحل أنشطته.

أثارت المعلومات الغنية التي سردها غريزة التحدي لديَّ، وأجَّجت روح البحث عن العلاقة الحقيقية بين الاقتصاد والسياسة، على أن أبدأ البحث عن جذور هذه العلاقة في اجتهادات فلاسفة عرب ومسلمين، قبل أن أتجاوزها نحو الآخرين. وجدتُ ضالتي الأولى عند علامتنا الكبير عبدالرحمن بن خلدون، فهو كما تعده الباحثة سهيلة زين العابدين حمّاد "أول مفكر عالمي يرى أهمية الاقتصاد للسياسة، ففي الفصل الذي بعنوان "نقصان الدفع يؤدي إلى نقصان الإيراد" يقول: السبب في ذلك أنَّ الدولة والسلطان هما السوق الأعظم في العالم.. إذا حجب السلطان البضائع والأموال والإيراد، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلَّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وقلَّت نفقاتهم، وهم معظم المشترين (السواد) وهجرت الأسواق (يقع الكساد) وتضعف أرباح المنتجات، فتقل الجبايات لأنَّ الجبايات والضرائب تأتي من الزراعة والتجارة والتبادل التجاري الجيد والمعاملات التجارية، وطلب الناس للفوائد والأرباح، ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة الجبايات الناتجة عن نقصان ثروة الحاكم أو الدولة.. فالمال إنَّما هو متردد بين الحاكم والرعية منه إليهم ومنهم إليه، فإذا منعه (حبسه عنده) فقدته الرعية".

لكنَّ الباحث مُحمَّد السيد سليم يُرجعها إلى من هو أقدم من ابن خلدون، ويعتبر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون أول من أشار لها، وإن كان ذلك في إطار مبسط، حين "ذهب إلى القول: إنه يجبُ أن تظل "الجمهورية فقيرةً حتى لا تغريَ المعتدين المحتملين بالعدوان عليها؛ فهذه النظرية ترى أن الاقتصادَ هو القوة المحدِّدة للسلوك السياسي؛ فالطبقات والدول تستجيبُ للأحداث الآتية من البيئة الخارجية بناءً على موقعها في النظام الاقتصادي، كما أن هذه الاستجابةَ تتَّسمُ بطابع الحتمية".

وعند الحديث عن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وتأثير الأول الكبير على الثانية، لا ينحصر الأمر في العلاقات الداخلية التي تنظم سلوك السكان بين بعضهم البعض، وبينهم من جهة وبين مؤسسات الدولة من جهة ثانية، بل تمتد تلك التأثيرات كي تشمل تنظيم العلاقات الدولية أيضا، وهو ما تشير له ترجمة الباحثين محمد بن أحمد مفتي ومحمد السيد سليم لمقال لويد جنسن، الذي يؤكد على الدور المركزي الذي تمارسه "العوامل الاقتصادية  في اختيارات السياسة الخارجية؛ لأن تنفيذَ معظمِ السياسات يتطلَّبُ توافر الموارد الاقتصادية، ويحدِّدُ توافرُ تلك الموارد ما إن كان يمكنُ للدولة أن تكون دولةً مانحة للمعونة الخارجية أم مستقبلةً لتلك المعونة، كذلك فالموارد تحدِّدُ قدرةَ الدولة على الدخول في سباقات التسلُّح ذات التكاليف الباهظة، والتبادل التجاري، أو تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، بالرغمِ من أن توزيع الموارد في النَّسق الدولي لا يحدِّدُ السياسات المتبعة، فإنه يضع حدودًا على مدى بدائلِ السياسة الخارجية المتاحة؛ فالدول التي تُعاني من نُدرةِ الموارد لن تستطيع أن تلعَبَ دورَ الدولة الكبرى، حتى إذا أرادت أن تلعَبَ هذا الدور، ومن ناحية أخرى، فإن توافرَ الموارد الاقتصادية لا يعني أن على الدولة أن تلعَبَ هذا الدور".

اجتهاد آخر يستحق التوقف عنده هو ذلك الذي صاغه مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط عمار علي حسن في هيئة تساؤل "هل يصنع الاقتصاد السياسة؟" وحاك في إجابته مقالا مطولا اعتبر فيه "الديمقراطية في قيمها الأصلية وإجراءاتها المحددة محكا لاختبار مدى تأثير الاقتصاد على السياسة، بل تتعدى ذلك في بعض المجتمعات لتصل إلى النقطة التي يمكن عندها الإجابة عن تساؤل مفاده: هل يصنع الاقتصاد السياسة؟ وهل هو الذي يسيِّر دفتها ويحدِّد أهدافها؟ وهذا لا يعني بالطبع التسليم بأن الاقتصاد فقط هو العنصر الفعال في تركيبة الحياة السياسية-الاجتماعية، لكن القول بأنه العنصر الأكثر أهمية لا يجافي الحقيقة ولا يقفز على الواقع". ويستعين حسن بما توصل إليه الباحث الأمريكي آلان تورين في تناوله لارتباط الديمقراطية بالتحرر الاقتصادي؛ حين يؤكد أنَّ "اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية وجهان لعملة واحدة، لأنهما يشتركان في الحد من السلطة المطلقة للدولة"، مضيفا (حسن)، "وليس معنى ذلك أن هناك انسجاماً كاملاً بين الاثنين، لكن يوجد على الأقل اتفاق واضح المعالم حول مصالح مشتركة، فالديمقراطية ورأسمالية السوق"، مستعيرا مقولة الباحث الأمريكي المهتم بقضايا الديمقراطية روبرت دال بأن "اقتصاد السوق والديمقراطية تشبهان شخصين مرتبطين في زواج عاصف يمزقه التنازع، ولكنه يستمر لأن كلا من الطرفين لا يرغب في الانفصال عن الآخر".

وهناك من أمثال الكاتبة حسينة العلين ممن يذهبون إلى ما يدعو له روبرت دال، فيرون من الصعوبة بمكان "فصل السياسة عن الاقتصاد فهما توأم؛ أحدهما يُكمل الآخر؛ فالسياسة وفي جوهرها هي الحكمة وحسن التدبير لتحقيق تطور المجتمع من خلال إدارة شؤونه بحرية وتأمين رقي الفرد، أما الاقتصاد فهي عملية تلبية الاحتياجات المادية الضرورية للمجتمع لتحقيق ازدهاره. فالسياسة هي القدرة على التكيف مع الواقع وفن التعامل مع الممكن من حيث الاقتصاد الملائم الذي يحقق هذا التكيف فالسياسة والاقتصاد متلازمان يسيران خطوة بخطوة".