التسامح.. جهاد

عبدالله العجمي

يا تُرى: هل بالإمكان اعتبار أن الحُقب الزمنية السابقة هي أكثر تسامحاً من زمننا هذا؟! سؤال يبحث عن إجابة من قارئ يدرك بعقله ما يحدث من احتقان حاد في عصرنا هذا؛ إذ لا يُمكن أن يتحقق التسامح الديني إلا بعد أن يسلم الواحد منا بأنه إذا كانت له وجهة نظر يأمل أن يحترمها الغير، فبالمقابل يتحتم عليه التسليم باحترام وجهة نظر ذلك الغير، وإن كانت له ثقافة فكرية لا يقبل أن ينتهكها أحد فبالمقابل يتوجب عليه عدم انتهاك ثقافة الآخرالفكرية، وإن ديمومة وجود الإنسان على هذه البسيطة لا تتأتى إلا على التعددية وقبول الآخر؛ فالمرء ابن أرضه وبيئته، تكوُّنه وتربيه وأحيانا تتحكم في توجهه، والتنوع الموجود بين الناس طبيعة آدمية من أصل نشأتنا البشرية، وهي ضرورة اقتضتها النشأة المجتمعية واستلزمتها الفطرة الآدمية، وهي بذاتها ضرورة حتمية لاستمرار بقاء الجنس البشري، أي أن الضرورة الملحة للتسامح تكتسب أهميتها من ضرورة الوجود نفسه.

وإسهاباً في شرح هكذا معنى؛ فلنسلِّط الأضواء قليلاً على النظرية القائلة بأنَّ وجود الإنسان على هذه الأرض متحقق في تعايشه على شكل جماعات. ومهما اتفقت هذه الجماعات على وحدة أصلها وحاجتها إلى الأنس بوجود الآخر واحتياجها إلى البقاء؛ فإنها حتماً ستختلف خصوصياتها العرقية والدينية والبيئية ليستمر السعي في عمران الأرض وبناء مدنها.

ولبناء مُجتمع متعايش وثابت القواعد، يجب أن يقوم هذا البناء على قواعد قوية، قوامها التسامح وقبول الآخر فكريًّا وعقديًّا وثقافيًّا، ويُفترض أن تمتاز هذه القواعد بمتانة الأسس التي ستستند إليها؛ لما لذلك من تأثير مباشر وأثر واضح على الفرد؛ فتمسُّك الفرد بهذه الأسس يمكن أن يُميِّز المجتمع بأكمله ويجعل رسالته عالمية يخلدها التاريخ، ويبقيها نحتاً على جدرانه لا تغيرها عوامل التغيير المتوالية. ومن أبرز عناصر حضارتنا العمانية: التسامح الديني، وهو سر بقائها عقوداً طويلة من الزمن، وهذه هي إحدى خصائص هذه الحضارة العريقة التي صارت محل اهتمام العالم أجمع.

حضرتُ مُؤخراً احتفالية جميلة رفعت شعار "حُب مُحمَّد يجمعنا" بولاية صحار، وقد كانت احتفالية رائعة بحضورها وفقراتها ورسالتها، والتي أقيمت احتفالاً بمناسبة الذكرى العطرة لمولد نبي الرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم- جمعتْ عِدَّة متحدثين أكفاء يُشار إليهم بالبنان كالشيخ سالم النعماني خبير التوجيه الديني بعمادة شؤون الطلاب بجامعة السلطان قابوس، والشيخ سالم بن علي المشهور باعمر، ولفيف من الشعراء والمنشدين. وقد أكد الشيخان في كلمتيهما على وحدة المنبع الذي استقت منه كل الطوائف أصول عقائدها. وحول هذا المنبع يلتف كل المسلمين، ومنه يجب أن يستقي العالم الإسلامي خلقه وأدبه وتسامحه. ومن أبلغ الأمثلة التي ضربت في ذلك الحفل هو استشهادهم بيوم فتح مكة؛ إذ لم يُؤذَ نبي كما أوذي المصطفى -صلوات ربي عليه وآله- لكنه حينما قَدِم إلى مكة فاتحاً، لم يُعلِّق المشانق أو يسن السيوف، بل قال كلمته المشهورة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"! عبارة جسَّدت أسمى معاني التسامح والتعايش.

وخلافاً للمقولة القائلة بأنَّ القائل أقل ملالة من المستمع؛ فقد كنا نتنمى ونودُّ لو أن الحفل لم ينته وامتد لفترة أطول لجمال فقراته وروحانيتها وملامستها الوجدان، وقد كانت للأبيات -العميقة المعنى والدقيقة الوصف- لما آلت إليه حال الأمة الإسلامية والتي أتفق مع طرحها وبقوة لما لها من ترسيخ لفكرة تعميم التجربة العمانية في التسامح والتعايش السلمي، والتي ألقاها الشاعر الدكتور مُحمَّد بن صالح العجمي؛ حين قال:

قد أعجلوا داعي التمزق بينهم...

وتطاحنوا مثل الرحى الدوار

لكننا وبنوره في وحدة...

لم ننجرف في لجة التيار

ثم أردف الشاعر المتألِّق مهدي اللواتيا بأبيات جميلة جدًّا ليُكمل اللوحة التي رسمها لنا بقية الشعراء، كل بفرشاته؛ إذ صاغ الشاعر مهدي في أبيات له توصيفاً لامس قلوب الحاضرين؛ حين قال:

هات يا كون مثيلا مثلنا...

فالعمانيون للكون إضاءة

نحن في الحب جمال باذخ...

من ترى يحسن للحب قراءة؟!

ولا نُبالغ إنْ قُلنا إنَّه لا جدوى من البحث عن أحداث الماضي لنعاصر بها صراعاتنا المثقلة بأمور لا حلول لها؛ فلكل منا قناعاته، ولتكن رسالتنا هي نشر روح التسامح لكي يسود العالم بالمحبة والألفة والسلام.

وختاماً: ألا ترون مثلي أنَّ التعايش السلمي ونشر قيمه في هذا العصر صار هو الجهاد الحقيقي؟!

[email protected]