إمبراطوريّات المستقبل ستكون إمبراطوريّات العقل

 

 حميد السعيدي

العالم الذي نتعايشه اليوم هو عالم قائم على الفكر الاقتصادي البحت، والذي يركّز على البناء الفكري القائم على الإنتاج الاقتصادي في كافة المجالات، وذلك من أجل امتلاك القوة الاقتصادية والموارد المالية والتحكم في أسواق العالم، لذا فإنّ الدول المتقدمة هي الدول التي تتصدر قائم الدول الاقتصادية العظمى، وذلك لأنّها ركّزت جل اهتمامها على العقول المنتجة، فكان ثمرة ذلك العديد من المنتجات الاقتصادية التي جعلتها مورد أساسي لكل أسواق العالم مما وفر لها موارد مالية ضخمة كونت نتيجة لذلك إمبراطوريات تتحكم بالعالم.

وما قول ونستون تشرشل "إمبراطوريات المستقبل ستكون إمبراطوريات العقل" رئيس وزراء المملكة المتحدة في القرن الماضي إلا تأكيدًا لما يحدث اليوم، فالدول المتقدمة هي التي سخرت العقل في بنائها، فكان ثمرة ذلك هو التحكم والسيطرة في اقتصاد العالم، نتيجة ارتفاع مستوى الابتكار والإبداع والإنتاج الصناعي، فالعقول التي تنتج فكراً جديداً وابتكارًا حديثاً هي التي تستغل قدراتها بالطريقة الصحيحة، لأنّ هذا العقل وجد للإنتاج والإبداع والتفكّر؛ وليس لإدارة الأجساد وتحريك الإنسان من مكان لآخر، فالعقل المفكر هو نتاج عمل تعلمي ناجح ومجتمع متقدم يرى في العقل هو العنصر الرئيسي بالموارد البشرية، والإنسان المفكر هو القادر على إدارة حياته بالطريقة الحديثة، فهو يستطيع استيعاب ما حوله والتكيف مع المستجدات والتحديات التي تواجهه، فهو يصنع من العقل مكان للإبداع والإنتاج الفكري الذي يجعله قادر على البناء والتطور ومواكبة الحداثة، وهذا يعطي مؤشر على مدى العمل الذي حدث للوصول به إلى هذه المرحلة من استغلال العقل والتنوير به في حياته بما يمكنه من الظهور والتقدم بحيث يصبح جزءا مؤثراً فيما يشهده العالم اليوم من تسارع في الابتكار والإنتاج الاقتصادي، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن؛ أين نحن من هذا العالم؟

والناظر إلى واقعنا المعاصر يجد بما لا يدع مجالاً للشك أننا تحت سيطرة وتحكم العالم الاقتصادي، والذي يؤثر في مستوى التنمية والتطور بناء على أهدافه، وذلك لأننا ما زلنا شعوب مستهلكة تعتمد على بيع النفط للحصول على مواردها المالية، فلا يوجد إنتاج اقتصادي يساهم في الاقتصادي العالمي، ولا توجد ابتكارات علمية أو إبداعية تصنع التميز للتنافسية الاقتصادية العالمية، وهذا نتيجة لغياب المنظومة القادرة على صناعة العقول المفكرة والقادرة على إدارة التغيير الاقتصادي لصالحنا، فالدول المتحكمة باقتصاد العالم اليوم هي الدول التي تعتمد على الابتكار الصناعي ورفد العالم بسلع اقتصادية حديثة، لأنّها تدرك جيداً حجم وأهمية العقول، ولذا فهي تعمل على صناعتها من خلال التعليم الناجح، فكهذا يقاس مدى مقدرة التعليم على بناء العقول المفكرة، وإذا عجز عن ذلك فهنا تكمن الخسارة في أهم مورد اقتصادي وهو القوى البشرية.

الإصلاح في منظومة التعليم بصورة عميقة وشاملة هو المنهجيّة المناسبة في الوقت الحاضر، والنظر بصورة مستقبلية لبناء منهجية التفكير والتبصر والاستقصاء والاستكشاف لهذا العالم الذي نعيش في جزء منه، وهذا لن يكون إلا من خلال التعليم القادر على صناعة عقول مفكرة ومبدعه، حيث إنّ الاستثمار الحقيقي في الرأس المال البشري هو المنهجية الصحيحة لبناء مستقبل واعد بالإنتاج والإبداع، لذا فإنّ اليوم نحن بحاجة إلى إعادة بناء منظومة تعلميّة قائمة على توظيف التعلم الحديث الذي يعتمد على الفرد في تعلمه، فطلابنا يمتلكون كل الإمكانيات التي تؤهلهم للقيام بدورهم الأساسي في التعلم، والبحث عن المعرفة، ومعالجة المشكلات، واقتراح الحلول، والابتكار والإبداع بطرق عملية ومنهجيّة، ولكنّهم بحاجة إلى التأسيس الحقيقي لعملية التعلم، ومنحهم الثقة في مقدرته على تحقيق نتائج التعلم الحديث.

فالزمن لن يمنحنا فرصا كثيرة لنتعلم، وأجيالنا تتخرج جيلا بعد جيل دون أن يكون هناك عمل قادر على التأثير في بنائهم الفكري والعقلي، فهل سيطول الانتظار  ونحن نترقب يوم الغد عسى أن يحمل لنا أملا جديداً نستعيد منه مجدنا وتاريخنا العظيم الذي كان يمثل إمبراطورية عظيمة ضربت جذورها في عمق العالم القديم، وأصبحت ترفده بالكثير من الإبداعات والصناعات وكنا سادة المحيط الهندي، ولكن حال تعليمنا الذي يئن تحت مرحلة التعثر والتأخر، فهو لن يكون وسيلة للتقدم على حالته الحالية، فمخرجات التعليم لم تحقق طموحات وآمال الوطن، ولم تستطع أن تحمل لواء التطوير الذي نطمح إليه، وطالما لم يحدث التغيير المنشود فالتعليم لم يحقق الغايات الوطنية، لأنّ تقدم الدول والنهوض بها يأتي من خلال التعليم، وهنا لا أقصد التعليم الذي يعلم أبناءنا القراءة والكتابة فهي مرحلة انتهت منذ عقود والتي ما زال تعليمنا يعاني منها، ولا أقصد التعليم الذي يساعدهم على اجتياز اختبارات الدبلوم العام للالتحاق بمقاعد الدراسة الجامعيّة، ولكن ما نبحث عنه اليوم التعليم الذي يبني العقول؛ تلك العقول القادرة على الابتكار والإبداع والنهوض بهذا الوطن، فبالتعليم ظهرت وتقدمت العديد من دول العالم التي كانت تُعد من دول العالم الثالث لكنها اليوم تنافس دول العالم المتقدم لتصبح جزءا من المقدمة؛ والعامل الرئيسي في ذلك ليست الموارد الطبيعية وإنما نتيجة تعليم الإنسان، فالإنسان هو المورد البشري الحقيقي الذي يقوم بالدور الرئيس في بناء الاقتصاد الوطني، فالعقول المبتكرة هي التي تتحكم اليوم في تفوق الاقتصاد العالمي، خاصة في مجال التقنية والمعرفة الحديثة، فظهور مسميات حديثة كالانفجار المعرفي، والاقتصاد المعرفي، والعولمة، والحداثة، والأجهزة الذكية، تمثل الركائز الأساسية التي تعطي الدول التي تمتلكها النصيب الأكبر من الدخل العالمي.

العلم وحده القادر على خدمة البشرية، وانتشالها من الاتكالية والاعتماد على الآخر، فبدونه لن يكون هناك وجود للإنسان على وجه المعمورة، فالإنسان المنتج هو القادر على أن يكون مؤثراً في العالم، واليوم الكل يدرك حجم وأهمية العلم، لذا فالدول تنفق المليارات من الدولارات من أجل الاستكشافات العلمية والابتكارية التي تقودهم نحو الاقتصاد العالمي، وهنا تمكن أهمية الإنفاق في جني ثمار ذلك في موارد بشرية مفكرة.

فالعلم الحديث لا يقبل الفكر التقليدي والعشوائي والقائم على الخيالية في صناعة الأحلام، وإنما يعتمد على المنهجية العلمية التي تعتمد على الواقعية والمنطق في بناءها، والتي تركز على الأدلة والواقعية القائمة على التفكير والاستكشاف والاستقصاء وصولاً إلى النظرة الحديثة المتعمقة التي تعتمد على الاثبات المادي البحت، وهذه هو فكر العالم اليوم، فهل نحن ندرك أهمية ذلك من خلال تعليمنا؟


Hm.alsaidi2@gmail.com