د. عبدالله باحجاج
شكلت التحديات الجيواستراتيجية الاقليمية والعالمية ، الشغل الشاغل لقمة المنامة الخليجية على حساب تحدياتها الداخلية ، البينية البينية أو الداخلية الخالصة، وغرقت كثيرا في استجداء الاجنبي لضمانة أمنها والحفاظ على استقراراها ، وفي هذا الاستجداء ، فضلت الرهان على التاريخ أكثر من المستقبل ، باختيارها بريطانيا كشريك استراتيجي متعدد الاغراض ، الامنية والعسكرية والاقتصادية على اعتبار المعرفة المسبقة أفضل نفسيا لها من معرفة مجهولة ، وبذلك تنفست الصعداء في ختام قمتها (37) يوم الخميس الماضي ، لكن هل الضمانة البريطانية شاملة لكل التحديات الخليجية الداخلية والخارجية ؟ وهل الخارجية ، ستمنع ابتزاز ترامب وإكراهاته المقبلة إذا سلمنا جدلا بالضمانة ضد المخاطر من جهة ايران ؟
يبدو أن الانظمة الخليجية أكثر هدوء الان قبل القمة الخليجية ، فقد تحول قلقها الى هواجس من المتغير المفاجئ ، ومن الابتزاز المالي العالمي ، وهذا ابتزاز حتمي ، ومخطط له من قبل دوائر عالمية بسبب ما تعانيه من ازمات اقتصادية داخلية ، وهنا ينبغي تصويب الاعتقاد الخاطئ بشان فكرة الرئيس الامريكي المنتخب ترامب الاستيلاء على نفط المنطقة ، فاصلها ليس من لبنات افكاره ـ وإنما لها جذور تاريخية ، ترجع تحديدا الى سبعينيات القرن الماضي ، حيث كان الصقور الجمهوريين ترادوهم فكرة الاستيلاء ، وهم الذين يقفون معه الان ، تحت مبررات كثيرة ، حيث يعتقدون ومعهم ترامبأنه ،، لو،،استولت بلادهم على نفط العراق بعيد احتلاله ، ما ظهرت الجماعات الارهابية فيه ، وكذلك الحال على النفط الليبي وبقيةنفوط الشرق الاوسط ، فالنفط يعتبرونه مصدر تمويل الافكار المتطرفة والجماعات الارهابية ، لذلك فهو العدو المستهدف ، وهذا مبرر لتسويق فكرة الاستيلاء ، فهل يمكن الان لترامب شن الحروب من أجل النفط ؟ الخبراء الاستراتيجيون يستبعدون ذلك ، لذلك ، فإن المسألة لن تعدو الا كونها ابتزازا للمال الخليجي ، والحصول على حصة الاسد للشركات الامريكية في الخليج ، فهل تتقاطع لندن الان مع هذا التوجه الامريكي القادم أم أنها عملية استباقية لكي تكون لها حصة معتبرة من الثروة الخليجية ؟ ليس لدينا شك ، أن هذه الدوائر العالمية تستغل التداعي الامني الاقليمي – وهى صناعتها – من أجل الاستيلاء سلميا على الثروات الخليجية ، فهىتنظر لدول مجلس التعاون الخليجي على أنها تملك (44%) من الاحتياط المؤكدة من النفط الخام في العالم ، وأكثر من (20،2%) من احتياطيات الغاز وحوالي (20%) من إجمالي الصادرات العالمية ، ومن بين الحقائق المغرية لهذه الدوائر الاكتشاف حديثا بان النفط الخليجي الاطول عمرا ، فمثلا عمر النفط الاماراتي (97)عاما والكويت (80) عاما والسعودية (65) عاما ، وما أخفي اعظم ، واذا كان النفط الخليجي فقد اهميته الاستراتيجية لأمريكا بسبب نفطها الصخري ، فهى وعبر شركاتها وشركائها الغربيين ، لا تزال اطماعهم فيها ، وسيمارسون كل ضغوطاتهم من أجل تلك الثروات ، ومن السذاجة تصديق تخلي واشنطن عن مصالحها المنظورة وغير المنظورة في الخليج بعد اعادة النظر في اولوياتها الاستراتيجية في العالم ، فإذا كان الخليج لا يحتل الاولوية الاولى لأمريكا الان ، فمن المؤكد أنه أي الخليج ضمن الدوائر الثلاث الاولى في العالم ، فقواعدها العسكرية موجودة ، والممرات المائية الخليجية ذات اولوية قصوى للمصالح الامريكية في العالم ، كما ان مصالحها الاقتصادية في الخليج بعدا أخر ، يجعلها متمسكة بالمنطقة بكل ما اوتيت من قوة .
وفي الوقت الذي كنا في جلسة عصف ذهني لتقديم هذه الرؤية ، فجأنا بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني بتصريح من العيار الثقيل جدا ، وذلك عندما هاجم في احدث تصريحاته الرياض وطهران بالقول ،، السعودية وايران تسيئان استخدام الاسلام ، وتحركان دمى لخوض حروب بالوكالة ،، جاء هذا التصريح المفاجئ والقوي جدا بعد يوم واحد فقط من اعلان الشراكة الامنية والدفاعية بين الخليج وبريطانيا ، وبعد موقف رئيسة الوزراء من اعتبار ايران عدو للخليج ، فكيف نفسر هذه المفارقة الغريبة ، وهى مفارقة ندعمها كذلك ، بإعلان لندن عن زيارة وفد اقتصادي وزاري لطهران لتوطيد العلاقات الاقتصادية معها ، جاء هذا بعد يومين فقط من قمة المنامة ، لا يمكن تجاهل التطورات المتلاحقة التي تحدث بعيد الكشف عن الشراكة الامنية والعسكرية بين بريطانيا والخليج طويلة الاجل ، فهى تكشف لنا المتناقضات في السياسة الدولية الجديدة لفاعليها التقليديين ، من هنا نؤكد على مسألة الابتزاز الدولي الجديد البريطاني والأمريكي ، وقد يتقاطع معه ابتزاز مماثل لفاعلين جدد في المنطقة ، وهنا ينبغي أن نفتح رؤية للسيرة الذاتية لجونسون بعد تصريحه سالف الذكر ، لدواعي فهم الخلفيات ، فهو يتقارب كثيرا مع شخصية ترامب ليس من حيث البنية والتصرفات السلوكية التي تميل الى الانتقاد الحاد والنكتة ، وإنما كذلك قلة الخبرة الدبلوماسية ، ففور تعينه من قبل رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وصفته وكالة بلومبورغ الامريكية بأنه الأقل دبلوماسية على رأس الدبلوماسية البريطانية، وقالت أن جونسون نفسه يبدو تفاجأ بالمهمة التي أوكلتها له رئيسة الوزراء، وفي خضم حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وصف جونسون الاتحاد الأوروبي بأنه "مشروع زعيم النازية، أدولف هيتلر"، الذي حاول، على حد تعبيره، "إنشاء دولة أوروبية واحدة". هو هنا ضد الوحدة ، فهل من يقف ضد الوحدة الاوربية سيقف مع الوحدة الخليجية ؟ هذا التساؤل موجه للمتحمسين للوحدة الخليجية ، لربما يعيد بوصلتهم الى العقلانية التي تحتم اولا استكمال المقومات الموضوعية والشكلية للوحدة قبل القفز فوقها ، وربما هذا يدفعهم الى اعادة النظر في علاقاتهم مع بعض ، وعلاقاتهم مع دول المنطقة بما فيهم ايران وتركيا، وربما كذلك الى خلق التوازن العالمي في علاقاتهم بالفاعلين القدامى والجدد ، هل هذا ممكن ؟
هذا الجنوح نحو الاجنبي ، قد جعل قمة المنامة ، تنظر بعين واحدة للتحديات التي تواجه دولها الست ، مركزة فقط على التحديات الجيواستراتيجية ، تاركة التحديات الداخلية تشكل أكبر اكراهاتها المقبلة ، وقد يستغلها الاجنبي نفسه للضغط عليها من أجل ابتزازها ، كما يفعل الجمهوريون خلال فترات رئاستهم الحكم في أمريكا ، والان ، وقد رجعوا له ، فمن المؤكد ممارسته ، وستعمل السفارات الامريكية في الخليج على اعادة فتح جسور التواصل مع الفاعلين المجتمعيين واصحاب الفكر والراي العام ، كأدوات ضغط مؤثرة .. ولنا تجربة سابقة ، يمكن البناء عليها ، فكيف تجاهلت قمة المنامة التحديات الداخلية ؟ الصوت الوحيد الذي خرج من القمة في هذا المجال كان من أمير دولة قطر ، وذلك عندما أعتبر أنه من غير المتصور القضاء على الارهاب أو التطرف دون اجتثاث جذورهما الحقيقية من خلال منح الشباب الامل ، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز حقوق الانسان وترسيخ قيم التسامح والابتعاد عن الطائفية بكل صورها ، وكيف نبلور المنظور القطري وقضية الباحثين عن عمل تعمق الفقر ، وسياساتها المالية والضريبية تؤسس الجوع ؟ للموضوع تتمه أن شاء الله .