وطن لا يصادر الفكر أبدا

 

 

آمال الهرماسية

عندما يكون شعار دولة حضارية "نحن لا نصادر الفكر.. أبدا" تقف أنفاس من حولها مرتجية فوضى القول والتقول، وتضارب الفكر والأفكار، واضطراب أمن الكلمة وأمان التعبير، فذاك شعار يمس أخطر نواة يبنى عليها استقرار وضبط التوازن في أي بقعة مهما بلغت من التحضر والرقي والحضارة، ألا وهو الكلمة.

فكما أن السحر والجمال من ميزات البيان، فالقول سلاح شديد يضرم نيران الفتنة ويبدد ظلال الأمان، فكم من كلمة أثارت حروبًا وشتتت شعوبًا، وهدمت بيوتاً، وفرقت أحبابا، وكم من عبارة ألّفت قلوبا، وعمّرت أوطانا، وبنت جسورًا، لذلك ولأكثر منه اتفق العالم منذ أقدم الأزل، أن الكلمة مهارة، لا يتقن استعمالها وتوظيفها إلا مخضرم متمرس واع مثقف ذو ضمير ورأي سديد وعقل راجح وقول بليغ.. فأين نحن من كل هذه الأوصاف والصفات؟؟

فإن وجدت نفسك تناقش كل أمر وكأنك خبير، وتقطع في كل شأن وكأنك عليم، وتناقش كل موضوع وكأنك بجميع جوانبه محيط، فاعلم أنك ممن حملوا قلما وخطوا حرفا من أجل التظاهر والرياء، وإن رأيت قلمك يدمع ألف مرة قبل خط الحرف وبثه، فاعلم أنك جدير بحمله وحفظه وتحمل جسامة مسؤولية حرفه وكلماته، وتلك لعمري أمانة المثقف والعالم والخبير التي يسأل عنها حيا وميتا، فالمتصفح اليوم لوسائل التواصل الاجتماعي بعقل وحكمة وموضوعية يعي استنكارا كثرة من يدعون المعرفة والعلم، ويناقشون بتعصب مالهم وليس لهم به علم، أو معرفة،

فإن اتفقنا أنّ المعرفة كما عرفها أحد القدامى "هي الأخذ من كل علم بطرف" وقد قيل في شأنها كذلك "تعلم شيئًا عن كل شيء لتكون مثقفا، وتعلم كل شيء عن الشيء لتكون عالمًا" وعينا وأدركنا بعمق أن الارتقاء إلى صفوف المثقفين لا يجعل منا خبراء بل عارفين ومتعلمين يسعون سعيًا جاهدًا لتطوير معارفهم وإثراء زادهم ليس بهدف الاستعراض وإثبات الوجود وإنما للفهم ومسايرة الأوضاع من حولنا والإفادة والأخذ بيد باقي أفراد المجتمع إلى مناهل النور والعلم والمعرفة، فما أعظمه من دور تتضاءل فيه مصلحة الذات لتنصهر بما فيه خير المجموعة وسمو المجتمع و صون الوطن.

فإن جعلنا من هذه الوسائل المثرية للتواصل الاجتماعي منصة لتبادل الأفكار للوصول إلى قرارات تنفيذية تهم الجميع من أجل مصلحة مشتركة بأسلوب محبب دون تشنج أو هجوم عشوائي ينسف انجازات الوطن العظيمة ويقزم من أعمال من أفنوا حياتهم في خدمة بلدهم كنا بذلك قد وظفنا بعض معارفنا فيما فيه الخير لنا ومن حولنا، وأثبتنا أننا علمنا كنه دور المثقف المرجو في تلك الدولة التي أرست دعائمها رافعة شعار حرية الرأي والقول، وكنا أهلا لهذه الثقة وهذه المسؤولية المنوطة بعهدتنا.

ونحن في زمن تنتشر فيه الإشاعة انتشار النار في الهشيم، وتجد فيه الفضيحة مرتعا خصبا، والتشهير لذة محرمة، واستهداف أعلام الوطن ومسؤوليهم غاية بشعة، أصبحت كلمة الصواب وقول الحق وإبداء الرأي السليم مهدد بالتلاشي والاندثار، فمن سمات المثقف الحق أن يتبين الأمر ويبحث ويتوغل في جميع متاهاته قبل أن يدلي برأيه ويصدح بقوله، فإن وجدت نفسك تقتصر على مصدر القيل والقال وتكتفي بمنبع الإشاعة وسوء المقال فتندفع للرد والمناقشة بغير هدف غير إثبات صحة ما ترى مستفزا مراوغا متشددا متأهبا للرد قبل الاستماع فاعلم أنك في أدنى مدارك المعرفة وأسفل درك المثقفين، وأنك بلا شك أسأت لذلك النهج القويم الذي تحدى متاهات الكبت والضغط وقطع الألسنة، ونادى بثقة وثبات بحرية الكلمة والرأي وعدم مصادرتها، أبدا!!

هو مبدأ قبل أن يكون مسلكا، وهو مسلك قبل أن يكون اختيارًا، وهو اختيار قبل أن يكون متنفسا، وهو متنفس قبل أن يكون ساحة وغى يطرح فيها منهزم، وينتصر فيها سليط لسان، والعاقل وحده يرسم حدودًا لكلمته فإن أراد بها خيرًا نثر من حوله خيرًا وعطاء، وإن أراد بها تشويهًا وطمس حقائق فذاك مسار في نفق مظلم يدوس فيه النور ويحوله إلى شك مقيت ويقطف أنوار السلام المتلألئة ليطحنها في ظلمات الفتنة والتشاؤم ونكران الجميل، ويطمس فيها الحقائق ليخرج بها في آخر النفق باطلا أريد به حقا، وهل يستقيم الباطل والحق يعلو ولو بعد حين.

فسلام لمستمع وعي دوره كمثقف، وكاتب وحامل أمانة يرتجي بها خيرًا، ويسعى بها إلى مرفأ سلام، من أجل وطن أفضل، وغد أجمل، ومستقبل أكثر إشراقا.

لأنّ يومنا مشرق حتما وأن ادعى المتصيّدون والمتشائمون والمنتقدون غير ذلك، فحجتهم ضعيفة وكلمتهم ليست لتستقيم، ونحن الدولة التي بنيت على الثبات والحكمة وحسن التدبير، فارفقوا بوطن أعطى وأسخى بجميل عطائه، وليس اليوم بحاجة إلا لبعض التوجيه والتعديل حيث وجب ليأتي دور الكلمة البناءة والرأي السديد والمشورة الصادقة؛ فيساعد على اكتمال المشوار والحفاظ على مرفأ السلام الذي به تنعم عمان وتشع نورا وبهاء.

إلى أقلامكم هبوا محبين مخلصين كلمة وقولا، فالوطن بحاجة إليكم ما دمتم تعون قيمة ما به تنعمون من نعم الأمن والأمان وحرية القول وجميل العمل، حفظ الله الوطن وبارك في كل مواطن أحبه وصدق من أجله في كلمته وقوله.

 

 

amel-hermessi@ hotmail.com