ثقافة الاقتصاد

 

 

عمَّار الغزالي

 

لم يحدُث على مرِّ التاريخ الإنساني أن نَجَح مجتمع بشريّ في تأمين حاجياته أو كمالياته، كما نجحت مجتمعات العصر الحديث؛ فالطفرة العلمية والتقنية الحديثة، والثورة المعرفية، أسهمت في استغلال أوسع للموارد، مكَّنت الإنسان من توفير سلع وخدمات بكميات هائلة، بَيْدَ أنَّ ما يُؤسف له أنه -ونتيجة انحسار بعض القيم وحلول أخرى محلَّها، بفعل الفلسفة الرأسمالية وأدبياتها وطيوفها النفسية والفكرية- تحوَّل الكثيرون إلى مجرَّد مجموعة مُستهلكين "مفتوحة شهيَّتهم" لتبديد الأموال واقتناء ما تشتهيه النفوس؛ وصار رَفْع مُستوى المعيشة هدف الحياة الأكبر، وأصبحت الحياة تتمحور حول مزيد من العمل ومزيد من الاستهلاك؛ ثم مزيد من الترف والإسراف. وتحوَّل الارتباط المفاهيمي لـ"قيمة الإنسان" من العقل والحرية والكرامة، إلى مجرد مظاهر ترتبط بنوع السيارة ومساحة البيت وما يملكه هذا أو ذاك من كماليات؛ في ظاهرة اصطُلح على تسميتها بـ"هوس الاستهلاك" المدمِّر لكل قيم إنسانية وآداب سلوكية وأخلاقيات فاضلة.

وعدًّا عمَّا يُسببه تنامي تلك الظاهرة من تحوُّل المجتمع إلى طبقات مُتفاوتة في القدرة الشرائية والاستطاعة المادية، يُمكننا إيجاز جُملة من الانعكاسات السلبية لهذا السلوك الشيِّن على المستويين الفردي والمجتمعي؛ منها: هَدْر الطاقات، وتضييع مصادر الاقتصاد، وخسارة الموارد، واهتزاز منظومة التنمية، وارتفاع حجم العجوزات، وتراجع قيمة العُملة، فيزيد التضخم على وقع اختلال التوازن بين الاستهلاك والاستثمار، ومن ثمَّ ترتفع الأسعار، وتنزح رؤوس الأموال خارج البلاد. وإذا كان مفهوم كـ"التنمية المستدامة" يُعنى ببناء الإنسان ليكون أكثر وعياً ومسؤولية نحو نفسه ومجتمعه؛ فإن سباقاً مع الزمن نخوضه هذه الأيام من أجل اتقاء نار الأزمة التي تلفح وجوه اقتصاديات العالم على وقع التراجع الهائل في أسعار النفط، وما يرافق ذلك من جهود حكومية "جبَّارة" لصياغة الخطط والإستراتيجيات الهادفة لبناء منظومة تنموية أساسها "التنويع الاقتصادي"، فإنَّ السياق يفرض توعية واسعة لأبناء المجتمع بخطر الإسراف والسلوكيات المؤدية إلى استنزاف مواردنا بهذا الشكل المتسارع.

إلا أنَّ حالًا كهذه تصطدم على أرض الواقع بما تحتكم إليه ثقافة الادخار لدينا من طرفي نقيض، وهذا التناقض سببه غياب ثقافة منهجية للادخار؛ كسلوك عقلاني وحضاري يحضُّنا ديننا الحنيف عليه؛ حيث أحاط الإسلام المعاملات المالية بسياج من الضوابط والقواعد الشرعية التي تُباعد بينها وبين كل ما فيه شُبهة أو شائبة، فكما وَضَع لمال الغير حُرمة تمنع من التعدي عليه، فإن لمال الإنسان حُرمة أيضاً لصاحبه تمنعه أن يضيعه، أو يسرف فيه، أو يبدده.

وقد استوقفني حديثٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "مَنْ تركَ اللباس تواضعا لله وهو يقدرُ عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى خيَّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها"، وعبارة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- "إني لأبغض أهل بيتٍ ينفقون رزقَ أيامٍ في يوم واحد"، كموجِّهات سلوكية تضبط دفَّة الإنفاق وتذم وتبغض الإسراف، وتُوجِّه لتقنين الإمكانيات والميزانيات والموارد، بما يُمثل منهجا متكاملا وبرنامجا فعالا وناجحا لضبط وترشيد الاستهلاك. وهي بالطبع ليست دعوة للبخل أو التقتير؛ إذ يتنافى هذا مع النهج الرباني القاضي بأن "يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد..." إلى قوله تعالى: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"؛ إذ لا حرج أن يكون المسلم أنيقا في ملبسه ومظهره، ويحرص أن يكون ثوبه حسنا جميلا على سبيل المثال، أو أن يبتغي الجمال في كل شيء، فكما ورد بالحديث الشريف: "إن الله يحب أن يرى آثر نعمته على عبده".

وبقراءة تكاملية لتلك الشواهد، ندرك أن ترشيد الإنفاق سُنَّة إسلامية حميدة؛ نزلتْ فيها آيات بيِّنات، ورُوِيت فيها أحاديثٌ وآثار؛ تدعو جميعها إلى ضرورة تهذيب النفس وتعويدها على إحداث توازن بين الاستهلاك والادخار.. ولأننا كمجتمع نُعاني من طغيان "ثقافة الاستهلاك" -خاصة في أوساط الشباب الذين يلجؤون إلى القروض البنكية لإنفاقها في مختلف وجوه البذخ المتعددة- يُفترض بنا -ومن واقع مرجعيتنا الإسلامية، وخصوصية مُجتمعنا العُماني- أن نُعيد التوازن إلى أوجه الصرف والإنفاق بتدعيم ثقافة الادخار، وابتكار مُمارسات ووسائل مبتكرة لهذا الشأن تكون نابعة من المجتمع وتراعي خصوصيته، وتفعيل الخطاب الإعلامي بمختلف مستوياته لتشجيع هذا المسلك وتنمية تلك الثقافة؛ عبر طرح مُتزن يحدِّد الأولويات بشكل عقلاني ومنهجي، وفي المقابل تعزيز دور المؤسسات التمويلية ومسؤوليتها الوطنية لغرس هذه الثقافة في المجتمع عبر اشتقاق "برامج ادخارية" تجتذب إليها المواطنين. وقبل هذا وذاك تطبيق قيم وسلوكيات الإسلام بشكل صحيح، وغرس ذلك في نفوس الناشئة، واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لبثِّ رسائل إيجابية تحفيزية؛ بغرض تكوين مجتمع اقتصادي يحافظ على ثرواته وممتلكاته، كضَمَانة لمجتمع مثالي يتميز بالتكامل والتعاون من أجل مستقبل يسعى دائماً لمصلحة أجيال الحاضر والمستقبل.

ولنذكر جميعا قول الأمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:

غنى النفوس هو الكفاف فإن أبت..

فجميع ما في الأرض لا يكفيها