عيسى بن علي الرواحي
وكان مِما قاله الأستاذ الدكتور على خشبة مسرح الجامعة أمام ذلك الحشد الكبير من الحضور" ... إنَّ الأوطان لا تقوم إلا بالعلم والمعرفة فهما سلاحها في الشدائد والخطوب، وعدتها وعتادها لحاضرها المُعاش، وزادها للمستقبل المجهول، لكنه ليس علم الشهادات الجوفاء البعيدة عن مضمونها ومصداقيتها ".
هنا همس أحد الطلبة الحضور في أُذن صاحبه: إنَّ هذا الدكتور لطالما خفض طلابًا ورفع آخرين في درجاتهم ومعدلاتهم بناءً على علاقته بهم. فردَّ عليه صاحبه كذلك: وهو نفس الدكتور الذي يقضي أغلب وقت المحاضرة في أحاديث خارج السِّياق التدريسي، وما منهجه معنا في الأغلب إلا تسليمنا المذكرات والأوراق؛ لكي نقوم بتصويرها.. وانتهى الأمر.
ارتفعت أبواق السيارات، وتعالت أصوات التفحيطات، وتراقص شباب وشابات مُلثمين بعلم بلادهم وأقنعة الحيوانات، فعمَّ الصخب، وانعدم الأدب، ولما تدخَّلت في الأمر شرطة مُكافحة الشغب، ارتفعت عند هؤلاء الشباب حدة الغضب، كونه اعتداء على حريتهم، وحرمانًا لهم من التعبير عن وطنيتهم، واحتفالهم بعيدهم الوطني.
احتمل المراجعون القادمون من أماكن مُختلفة لإنجاز معاملاتهم صبرا طويلا إثر تلك العبارة المكتوبة على نوافذ إنجاز المعاملات (نعتذر إليكم مدة ساعتين فقط ( 10:30-8:30ص) عن توقف العمل؛ ليحتفل موظفونا بالعيد الوطني). في تلك الاحتفالية كثرت أنواع المأكولات والمشروبات، كما ألقيت الكلمات المُعبرة والقصائد الوطنية التي تضمنت حُب الوطن والرقي به والسعي في خدمته والكدح من أجله؛ ونظرًا لأنَّ البطون امتلأت بما لذَّ وطاب، ولأنها فرحة الوطن فقد اعتذر كثيرٌ من الموظفين عن العودة إلى مكاتبهم لإنجاز مُعاملات المواطنين المنتظرين، ولا يملك الموطن إلا الصبر الجميل؛ إيماناً بالوطنية وحب الوطن الذي توشحه أولئك الموظفون.
على طاولته التي يتلقى بها ضروب العلم نحت بآلة حادة عبارات كثيرة من بينها "كم أحبك يا وطني"، أما علم بلاده بألوانه الزاهية فقد رسمه على جدار الفصل الذي يقع على يمينه.
وأخيرًا وبعد أربع سنوات ونصف من المُراجعات والمواعيد والأخذ والرد والوعود والردود فصلت اللجنة المعنية في موضوع المواطن الذي يعمل مراسلاً في إحدى المؤسسات الحكومية ويُعيل أسرة مكونة من تسعة أفراد ويسكن في منزل صغير متهالك ورثه عن والده، وقد كان موضوع المواطن هو استحداث أرض في منطقته مقابل سحب الأرض التي حصل عليها في منطقة بعيدة عن مقر سكنه ولا تتوافر بها أي خدمات نهائيًا، وقد جاء الرد بالاعتذار ورفض الطلب، وقد خاطبه مُدير الدائرة المختص بالموضوع مُطيبًا خاطره : " يؤسفنا رفض طلبك يا أخي العزيز، فكما تعلم أنّ الأنظمة والقوانين لا تسمح بهذه الطلبات حالياً ويرفض اعتمادها من قِبل المعنيين بالأمر، ونحن في وزارتنا الموقرة مؤتمنون على كل شِبرٍ من هذا الوطن العزيز، ومحاسبون عنه أمام الوطن والحكومة والشعب وأمام الله يوم العرض الأكبر، ولا يُمكن خرق القوانين أو التساهل فيها".
تقبل المواطن هذا الرد ورضي به وسعد سعادة بالغة بالحرص الكبير الذي يُبديه هؤلاء الموظفون على حماية كل شبرٍ من تراب الوطن، وأنَّ جميع المواطنين سواسية في هذا الشأن، ولا فرق بين فقير وغني ولا موظف ومسؤول، كما اقتنع أخيراً بأنَّ تلك الحيازات الشاسعة التي يملكها كثير من ذوي المكانة السامقة، والأراضي مُتعددة الاستخدامات التي حازها ذوو المناصب الرفيعة، والامتدادات الواسعة من المساحات الرحبة في المناطق الراقية التي اختص بها أولو الفضل والكرامة ليست من ثرى الوطن وترابه الطاهر، وإنِّما من كوكب المريخ ولا ينالها إلا المخلصون الأوفياء.
في كل عامٍ ترتفع درجة الوطنية داخل المدارس، ففي كثيرٍ منها أصبح يوم الاحتفال بمُناسبة العيد الوطني يومًا لا تدريس فيه، فبعد نهاية الحفل يخرج الطلاب من صرحهم التعليمي المحتفل بالوطن، فإما إلى بيوتهم راجعين، وإما في الطرقات مُتسكعين. أما بعض المدارس فقد زادت درجة الوطنية لديها بشكل كبير عندما جعلت احتفالها بهذه المُناسبة قبل يومين من الإجازة الرسمية المُحددة في إشارة تلميحية إن لم تكن تصريحية إلى أن يغيب الطلاب في اليوم الواقع بين الاحتفال والإجازة، وهذا ما حدث فعلًا.
لم يمكث أثناء مُقابلة الطبيب الاستشاري أكثر من ست دقائق رغم جلوسه في قاعة الانتظار ذلك اليوم أكثر من خمس ساعات على تلك الكراسي الخشبية في قاعة الانتظار المُكتظة بالمرضى المُراجعين الواقفين والجالسين، ورغم انتظاره هذا الموعد أكثر من ثمانية أشهر بعد أن ظلَّ يتردَّد على المجمع الصحي بولايته قرابة عام ونصف العام فتم تحويله إلى هذا المستشفى التخصصي بالعاصمة الذي يقصده من في شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها، وقد حدَّد له الطبيب موعدًا آخر لمقابلته بعد عشرة أشهر رغم أنَّ الطبيب يعرف أنَّ آلام الوالد لا تحتمل كل هذا التأخير والمُراجعات، ولكنها الضرورة التي لا محيص عنها، وعليه أن يتحلى بالصبر الجميل لفترات انتظار أخرى قادمة.
هنا كان الولد مضطرًا إلى أن يبيع أرضه التي حصل عليها من الحكومة ـ بعد أن انتظرها سبع سنوات ـ من أجل علاج والده خارج البلد، فبر الوالدين والإحسان إليهما يقتضي أكثر من ذلك.
في استراحة الفندق بالدولة التي تمَّ السفر إليها للعلاج يستمع الابن ووالده إلى قراءة تقرير مطول عن الخدمات الصحية بالبلاد بثته القناة الأولى، ومما جاء فيه "... وأصبح جميع المواطنين اليوم أينما كان موقعهم وبمختلف فئاتهم العمرية يحظون بخدمات صحية رائدة مُيسرة منقطعة النظير يشار إليها بالبنان انعكست إيجابًا على الوضع الصحي للمواطن، ونالت على إثرها الحكومة إشادة واسعة من مُختلف المؤسسات الصحية بالعالم..." وما جاء في هذا التقرير يكاد يتطابق مع ما أوردته الصحف المحلية في غمرة احتفالات البلاد بعيدها الوطني المجيد.
issa808@moe.om