تساؤلات على مائدة "تأسيس"

 

 

عمَّار الغزالي

 

سيبقى نوفمبر دوماً ميلادًا جديدًا للإرادة الوطنية، وعزيمة العُمانيين نحو استكمال المسيرة ومُواصلة البناء؛ وستبقى عُمان هي الهدف وازدهارها هو الغاية التي يجب أن تُدرك، يُعزز ذلك حجم الخطط والإستراتيجيات والمبادرات والبرامج الوطنية التي انطلقت، مُؤخرا، كالفلج يروي آمال العُمانيين في مستقبل نمائي أكثر ثباتا واستقراراً.

وكباردة طيبة تستحق الاهتمام، يأتي اعتماد مجلسُ إدارة غرفة تجارة وصناعة عُمان إطلاقَ مبادرة "تأسيس"؛ والتي تستهدفُ شبابنا من الخريجين الباحثين عن عمل كثروة ينبغي دعمها وحسن استغلالها وضمان تجويد إنتاجيتها، بجانب تخصيص مليون ريال لإنشاء صندوق لدعم المبادرة؛ بهدف تمكين رواد الأعمال، وليكون بمثابة حجر "يحرَّك الماء الراكد" في بُحيرة واسعة من التحديات تعترض سبيل هذا القطاع، وتحجِّم قدرته على المساهمة في النهوض والارتقاء بالاقتصاد الوطني.

ففكرة "تأسيس" تتمحور -إضافة لدعم قطاع ريادة الأعمال- حول مُساندة الحكومة في خلق مسارات جديدة للباحثين عن عمل، وخلق جيل جديد من رجال الأعمال؛ وتمكين الشباب من أخذ زمام المبادرة، عبر تأسيس 46 شركة -وُضِعَت لها مدة زمنية سنة كاملة؛ تنتهي في نوفمبر 2017- وآلت "الغرفة" على نفسها -وبالشراكة مع القطاع الخاص- تقديم كافة سُبل الدعم المباشر وغير المباشر للشركات الناشئة؛ وفق مساريْن؛ أولهما: صندوق برأسمال يبلغ مليون ريال يقدِّم تسهيلات مالية للشركات الجديدة، والثاني: إسناد عقود وأعمال لها، وحثِّ الحكومة على إعطاء تلك الشركات الأولوية لتنفيذ بعض المناقصات في مجالات تخصُّصها، كي تتمكن من ترسيخ وجودها في السوق المحلي، ومن ثم تنطلق إلى الأسواق الإقليمية والعالمية.

إلى هنا.. "نقطة، ونبدأ سطراً جديداً"؛ إذ وفي ظلِّ حراك حكومي واسع كهذا لإحداث تعديل يصحِّح مسار الإنتاجية ويوجِّه سياسة الاستثمار إلى أهداف أبعد، ويُعيد توزيع الأدوار بين القطاعين العام والخاص، بما يجعل الأخير هو الرائد في المرحلة المقبلة للتنمية، وتعظيم دوره في مجال التجارة الدولية، فإنه وبحُكم ما تمثله المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من حصة لا يُستهان بها في تكوين القطاع الخاص لِما تتميّز به من خصائص كمرونة الإدارة والقدرة على التحكم في شروط الإنتاج والسيطرة على قوى العرض والطلب، فإننا نرى أن مبادرة "تأسيس" رغم ما تتوافر عليه من جَهْد طيب يُشكر جميع القائمين عليه، إلا أنَّها لن تكفي وحدها لإيقاف "طوفان تحديات هذا القطاع"؛ فالتجارة المستترة، والبيروقراطية وبطء سير المعاملات، والتمويل، وعدم القدرة على توفير ضمانات، والتحديات التسويقية، والإدارية، والفنية، بل والتشريعية كذلك، كلها تحول دون مباشرة قطاع "ريادة الأعمال" دوره في عملية التنمية الاقتصادية؛ رغم أنه منجم مليء بالعديد من الفرص، تمثل -حال استثمارها جيداً- مصدرًا جديدًا لأفكار تنموية أكثر تباينا واختلافاً.

صحيح أنَّ حكومتنا -ولله الحمد- لعبت دورا رائدا في ترقية هذا القطاع بعد جعله تحت وصاية "الهيئة العامة لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة"؛ تهتم بتأهيله وتدعيمه من عدّة نواحي، إلا أنَّ الأزمة الأخيرة على وقع تراجع أسعار النفط، والإجراءات التي أُعلن عنها ولمسنا تداعيات بعضها مؤخرًا، تَشِي بأنَّ هناك حلقة مفقودة في المسار التنموي لهذا القطاع؛ وهو ما يفجر جُملة من التساؤلات؛ منها على سبيل المثال: أيْن أحقية رواد الأعمال العُمانيين في الاستفادة من إجراءات الحماية التعريفية الكفيلة بإكسابهم فرصا جديدة لفرض وجودهم في الأسواق المحلية قبل العالمية؟ وهل نحن راضون عن نسبة مساهمة قطاع واعد كهذا في إجمالي الناتج القومي؟ وهل أصحاب تلك المشاريع حقَّقوا هامش الربح الذي يؤهلهم للتوسع أكثر، أم أنهم مازالوا يترنحون تحت وطأة تمويلات بشروط قاسية لا يتحملها رائد الأعمال المبتدئ؟ وهل حقًّا استفاد روادنا من برامج التأهيل التي يخضعون لها؟ وأين قطاع ريادة الأعمال في السلطنة من آفاق المنافسة العالمية، فضلا عن منافسته محليًّا؟ إلى غير ذلك من تساؤلات يستعصي إجمالها في سطور.

وفي مقابل ذلك، تطلُّ "إشكالية تأهيل رواد الأعمال" برأسها؛ إذ كم من مشروع انتهى على عتبات "الإخفاق": سواءً الإداري منه، أو الفني، أو غيرهما من الإخفاقات؟! فأين المعاهد المُتخصِّصة لرفع مستوى الوعي المهني لدى روادنا وتحفيز عمليات البحث العلمي والتطبيقي المرتبطة بالمشروعات الصناعية؟ ومنذ متى ونحن نسمع عن خطة تحديث التعليم المهني؟! وأين نظام "الدعم الفني" الذي يقدِّم خدمات إرشادية لأبنائنا الشباب؟ وهل يعي كافة أبنائنا من رواد الأعمال آليات تطوير وإعداد الخطط التي تستوعب مفاهيم "الاستثمار البشري"؟! وأين برامج تعزيز ثقافة المعرفة وتشجيع المؤسسات والأفراد على ضرورة استيعاب مفاهيم الاستثمار في العقول ومكوناته وطرق قياسه؟

إنَّ قطاعا كـ"ريادة الأعمال" تُعقد عليه الآمال ليكون رافدًا نوعيًّا جديدًا يضخ في شرايين اقتصادنا الوطني مزيدًا من عوامل التنوع والمتانة؛ لا تزال هناك العديد من المهام الكبيرة التي لا بد أن تُكافئ التطلعات حِيَاله، خاصة فيما يتعلق بتدعيم الشراكة الحقيقية والفاعلة بين الحكومة والقطاع الخاص، لتوفير مزيدٍ من الدعم خلال الفترة المقبلة؛ ولا أعني دعمًا ماديا فحسب، بل كل أشكال الدعم الواجبة، مع التركيز على المؤسسات ذات التجربة النوعيَّة، وتبنِّيها وتطويرها لتحقِّق مزيدًا من المساهمة في رحلة البناء والتطوير، وبما يُعزِّز نموذج الاستدامة؛ ويضمن استفادة قصوى من ثرواتنا بشكل أكثر كفاءة وعدالة وأسرع نماءً.