لغز أشرف مروان

 

زاهر المحروقي

مرت 43 عاماً على حرب أكتوبر. وقد تركزت اهتمامات وسائل الإعلام الإسرائيلية على الحدث، وهناك شبه إجماع على أنّ الحرب شكلت درساً لإسرائيل بسبب فشلها في التنبؤ بها، رغم أنّ هناك تحذيرات عربية قُدمت للقيادة الإسرائيلية بأنّ مصر وسوريا تعدان لهجوم مّا على إسرائيل. وفي ذكرى حرب أكتوبر هذا العام، يتضح أنّ النقاش داخل المؤسسة الأمنيّة في تل أبيب ما زال حامياً حول شخصية أشرف مروان؛ هل كان أهمّ عميل لإسرائيل؟ أمْ أنّه كان عميلاً مُزدوجاً شارك بتوجيهاتٍ من القيادة المصريّة في عملية الخداع قبيل اندلاع الحرب؟ فقد أصدر الجنرال شلومو غازيت، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكريّة (أمان)، كتاباً تحت عنوان "مفترقات مفصليّة"، تطرّق فيه بإسهاب لقضية مروان وحيثياثها. كما أنّ شفطاي شافيط رئيس الموساد الأسبق أصدر هو الآخر كتاباً عن حرب أكتوبر تناول فيه قضية مروان.

يتناول الكاتب زهير اندراوس، الجدال الدائر في إسرائيل حول شخصية مروان الذي كان يُلقب بـ"الملاك"، وذلك في تقرير مفصل نشره في صحيفة "رأي اليوم"، حيث أكد الجنرال إيلي زعيرا رئيس الاستخبارات العسكريّة في تلك الفترة، أنّ مروان كان عميلاً مُزدوجاً، وقد طرح عدّة تساؤلات في الماضي غير البعيد: لماذا قام "الملاك" بإبلاغ إسرائيل عن اندلاع الحرب قبل يومٍ واحدٍ من ساعة الصفر، على الرغم من أنّه كان على علم قبل ذلك بكثير عن موعد اندلاعها؟ وأكثر من ذلك، كيف بقي مروان شخصية محترمة في مصر حتى بعد انكشاف أمره بأنّه كان جاسوساً للموساد؟ وبحسب الخبير في الشؤون الأمنيّة د. رونين بيرغمان، فإنّ العديد من رجال الموساد ساورهم الشك بأنّ مروان كان عميلاً مُزدوجاً، وفي مُقدّمتهم رافي إيتان قائد قسم عمليات الموساد في أوروبا في ذلك الوقت. لقد شكلت إسرائيل لجنة تحقيق رسميّة وسريّة في هذه القضيّة، ولكن بعد فحص الموضوع والتحقيق مع من كانوا على علاقة بـ "الملاك المصريّ"، لم تتوصّل إلى نتيجةٍ فيما إذا كان عميلاً للموساد فقط، أمْ أنّه كان جزءاً من عملية الخداع المصريّة.

ويقول الجنرال غازيت في كتابه الجديد، إنّ مروان كان ملاك التخريب؛ فقد  حولّ الموسادُ القيادةَ السياسيّة في إسرائيل، بما في ذلك رئيسة الوزراء غولدا مائير، ووزير الأمن موشيه دايّان والقائد العام لهيئة أركان الجيش الإسرائيليّ، إلى مدمنةٍ على قراءة التقارير التي كانت تصل إلى الموساد من مروان. فقد كانوا يطلعون عليها دائماً، ويُعجبون بها، وكانوا على علمٍ باسم الـ"ملاك"، ومكانته في القيادة المصريّة. وكانت القيادة السياسيّة مهتمة بالأحاديث التي كان يُجريها تسفي زمير رئيس الموساد السابق مع مروان. ويُضيف الجنرال غازيت أنه بسبب الحاجز النفسيّ الذي خلقته تقارير مروان، فإنّ القيادة السياسيّة أهملت بالمرّة التقارير التي كانت تعكف على إعدادها الاستخبارات العسكريّة، وأدمنت على تقارير مروان، حتى وصل بها الأمر أنّها لا تُصدّق أيّ شيء إذا لم يكن مصدره مروان. ويرى غازيت أنّ جميع الأجهزة الأمنيّة في إسرائيل وقعت في فخ مروان، وبسببه فوجئت إسرائيل بالحرب في السادس من أكتوبر.

كانت وزارة الدفاع الإسرائيلية قد سمحت قبل سنوات قليلة بنشر عشرات من الأوراق السرية حول حرب أكتوبر، خاصة تحقيقات لجنة "أجرانيت" التي شُكلت للتحقيق حول القصور الذي أصاب الجيش الإسرائيلي، ومن ضمن الذين تم التحقيق معهم وتم نشر بعض هذه التحقيقات، جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتها، التي تمّ استدعاؤها بعد أربعة أشهر من نشوب الحرب. وفي شهادتها التي بثت القناة الأولى بالتليفزيون الإسرائيلى تسجيلاً لها لأول مرة في 14/9/2013، يرد اسم أشرف مروان كثيراً؛ حيث قالت "إنّ تسيفي زمير رئيس الموساد سافر ليلة الخامس من أكتوبر إلى لندن بدون علمها للقاء عاجل مع مروان، وعلمتُ بذلك في اليوم الثاني فقط"، رغم إلحاحها بإبلاغها بكلِّ شيء، إلا أنه قيل لها، إنّ الرمز الشيفري كان "الحرب"، ولذلك سافر ولم يبلغها، وأصرت مائير أنه كان يجب أن تحصل على المعلومة، لأنها من "مصدر جيد"، وقالت:"أريد أن أعترف بظلم أوقعتُه بهذا المصدر طول السنين، فقد قلت لرئيس الموساد أكثر من مرة: هل تُصدقه؟، "وكنتُ أعتقد دائماً أنه ربما كان يقدِّم تضليلاً في حالات كثيرة، رغم أنّ رئيس الموساد كان يثق به ثقة عمياء". وأكدت أنّ رئيس هيئة الأركان قال لها قبل الحرب إنّ هناك معلومات تشير إلى عزم الجيش المصري توجيه ضربة مفاجئة للقوات الإسرائيلية في سيناء، فقررت إعلان التعبئة العامة صباح السادس من أكتوبر، لكن سرعة الضربة أربكت جميع الحسابات.

دارت حول أشرف مروان الكثير من الأقاويل والتهم، ولكنّ الحقيقة ظلت غائبة، لأنّ الرئيس مبارك دافع عنه عندما وصفه بأنه "رجل وطني"، إلا أنّ هيكل كشف بعض الغطاء عن هذه الشخصية في كتابه "مبارك وزمانه – من المنصة إلى الميدان"، إذ ذكر التفاصيل الدقيقة التي تؤكد أنّ مروان كان عميلاً لإسرائيل وزوّدها بمعلومات دقيقة. وعندما تواجه الإثنان - هيكل ومروان - في لندن، دار نقاش شديد بينهما على أن يُستكمل فيما بعد، عندما واجهه هيكل ببعض شكوكه والمعلومات التي لديه، إلا أنّ مروان وعده بلقاء آخر ثم تهرب منه ولم يتم اللقاء. وقد قال له هيكل:"دعني أكن واضحاً معك. لا شهادة حُسن سير وسلوك من السادات؛ ولا صلة مصاهرة مع عبد الناصر تعطيان عصمةً لأحد، لأننا أمام مشكلة حقيقية تقتضي وضوحاً مقنعاً حقيقياً". وهناك نقطة ذكرها هيكل، وهي إشارة لها مغزاها ولا يمكن أن يثبتها في كتابه، إلا إذا كان يقصد من ورائها شيئاً، حيث أشار أنه قال لمروان: "أنت لم تأت إلى القاهرة طوال هذه السنة والنصف، ولا أعرف إذا كنتَ ممنوعاً من المجيء لها بطلب من الرئيس مبارك الذي نصحك بالسفر منها أثناء لقائك معه فى ضريح الرئيس عبد الناصر"، فكان رد فعل مروان وهو في قمة الانفعال، نافياً أن يكون قد ترك القاهرة بطلب منهم كما يشيعون، لأنه – الرئيس مبارك -  لا يستطيع ذلك! وعندما سأله هيكل لماذا لا يستطيع، ألا يملك سلطة؟! فردّ مروان بحدّة:"هو لا يملك أيَّ سلطة، إنني أستطيع تدميره وتدمير غيره معه"، وذكر اسم اللواء "عمر سليمان".

على ضوء النقاش الدائر في إسرائيل حول شخصية أشرف مروان، كان يجب أن تفتح مصر تحقيقاً رسمياً في القضية، حتى تتضح الحقيقة للناس، فلا يمكن أن يصرح الرئيس مبارك بأنّ مروان كان شخصاً وطنياً في وقت قرأ العالم كلَّ ما نُشر عنه في إسرائيل، ولا يمكن أن تنتهي القضية إلا بتحقيق شامل، حفاظاً على سمعة مصر وحكومتها، وربما على سمعة عائلة أشرف مروان نفسه؛ فالقضيةُ في النهاية مأساة كبرى، ولا ينبغي أن تبقى مائعة هكذا تتجدد في إسرائيل كلَّ عام، وسط تعتيم مصري شديد.