بين الطبيب والمريض

عبد الله بن محمد العجمي

 

قيل قديماً إنّ هناك شخصين لا يمكن أن تأخذ منهما شيئاً دونما ثمّة تقدير واحترام لهما: الطبيب والمُعلّم..

لا أحد منِّا يستطيع أن يبخس الأطباء حقهم.. إذ لا يوجد لدينا أدنى شك في أنّ درجة البكالوريوس في الطب هي من أصعب الشهادات الجامعية إن لم تكن أصعبها، مع إجلالي واحترامي لبقية التخصصات، وذلك لاحتوائها على مخزون كبير من المعرفة نظرياً وعمليّاً..

فالمصطلحات الطبية المُعقّدة نوعاً ما، وأسماء الأمراض المُركبة من عدة ثقافات متتالية، وحفظ الكم الهائل من الأعراض والمُضاعفات المصاحبة لكل مرض، وحتمية تصنيفها ذهنياً لتصنيف كل مرض على حدة وتشخيصه التشخيص المُناسب.. كل ذلك يتطلب جهداً ذهنياً لا يُستهان به.. فضلاً عن كون أنَّ دراسة الطب لها علاقة مباشرة وحساسية مُتصلة بالتعامل المُباشر مع الجسد الآدمي.. والذي يتعرض هو بدوره إلى مُتغيرات وتقلبات بالنفس والروح.. وقد كان أبلغ ما وُصِف به هو وصف الرسول الأكرم (ص) حين وصفه أنه إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسهرِ والحُمّى.

ورغم ما أوردناه من صعوبة الحصول على شهادة البكالوريوس في الطب إلا أنها تكاد تكون أولى خطوات طريق النجاح.. لأنّه يكون بالكاد قد وقف على رجليه، وهناك طريق طويل بانتظاره قد يصل إلى عشر سنوات ليتمكن من الحصول على لقب "استشاري" مع ما يستقطبه هذا اللقب من مسؤوليات وصلاحيات ومكانة مجتمعية تشبع طموحه.. بدل المكوث في غرفة مكتوب على لائحة بابها "طبيب عام" مع كل احترامي وإجلالي لهم جميعاً..

غايتنا مما سُقناه من هذه العقبات والصعوبات ما هي إلا إيضاح أن هذا الطريق وعر وطويل ويحتاج إلى كمٍ هائلٍ من التركيز والعلم والمعرفة فضلاً عن الممارسة العملية التي تتوج كل هذه العقبات النظرية التي أشرنا إليها، يأتي بعدها التعايش مع واقع التطبيق العملي لما تمّت دراسته.. وهنا تكمن مشكلة التواصل، والنقاش مع طبيبنا الجديد على الساحة !!

ونجد في المقابل أن المريض أياً كانت ثقافته أو شهادته أو حتى تخصصه.. فلا أحد يعلم بما يشتكيه إلا هو وحده.. ولحالته النفسية ومعنوياته دورٌ كبيرٌ وتأثيرٌ واضحٌ على صحته الجسدية، فارتياحه وطمأنينته النفسية يمكن أن تحسّن حالته وفي المُقابل تسوء وتتدهور لو كان هلِعاً خائفاً..

من زاوية أخرى نجد أنَّ الحالات التي تمر على الطبيب الواحد عديدة ومتفاوتة من ناحية خطورتها ودرجتها.. ولا نستطيع أن ننسى أيضاً أن الطبيب موظف يُعاني ما يعانيه أيّ موظف من ضغوطات إدارية.. ومشاكل مع طاقمه الطبي.. فضلاً عن الدور الاجتماعي له كزوج وأب وإنسان له ما له من تطلعات وطموحات .. كل هذا يتجسد في ذلك الطبيب المعالج أعانه الله.

نرى في المشهد المُقابل أنَّ المريض قد حصر كل مشاكله الحياتية وربط مصيرها بحالته المرضية.. وأصبح يستشعر -بتحسّر- المقولة الشهيرة: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء" فصار يرى ذلك التاج يشعّ لمعاناً على رؤوس من يراهم بجانبه.. وتتفاوت درجات المرضى كل حسب حالته وثقافته وموروثه الاجتماعي فمنهم الأمي ومنهم الجامعي ومنهم الصابر المُحتسب ومنهم الجزوع القانط.. وللأمراض وأنواعها تأثير مُباشر على حالة المريض النفسية فمن به كسر تختلف حالته عمّن به حرق أو جرح.. وطبعاً كلاهما لا تصل حالتيهما إلى حالة المصاب بالسرطان أو الأمراض المستعصية الأخرى أعاذنا الله وإياكم من شرها.. وما يزيد الطين بلة هو مشاكل المريض الخاصة بالعمل والبيت والحياة التي لم يقنط منها البتّة..

بعد هذه المقدمة المستفيضة صرنا أمام مشهدين متقابلين، مشهد يضمّ طبيباً به من الثقة بنفسه ما به كونه تعب كثيراً ليصل إلى هذا الموقع ليواجه الكثير من التحديات والمسؤوليات.. وفي المشهد المقابل هنالك مريضٌ يُعاني من ثقة مهزوزة، قد اختزل الكون بأكمله في حالته المرضية.. وعند التقاء المشهدين مع بعضهما يحصل المشهد التالي.. فحين يُثير المريض أو مرافقوه من أهله وذووه تساؤلاً عن حالته المرضية.. تساؤلاً مبلولاً بماء الكثير من التجارب المُجتمعية.. ذلك المجتمع الذي به من الحالات ما شفيت تماماً وبه في المقابل من هلك.. سواءً بخطأ في العلاج أو خلل في التشخيص مما يضفي نوعاً من الضبابية التي تنتج بدورها الكثير من النصائح المبنية بعضها على تجارب وبعضها على أقاويل نجهل قائلها؛ كل ذلك يجعل المريض يعيش في دوامة من الضغط النفسي من منطلق أنَّ النَّاس أعداء ما جهلوا..

في الجهة المُقابلة هناك الطبيب الذي ملّ من سماع تلك التساؤلات غير العلمية في كثير منها.. المصيبة حين يسري الشك في نفس الطبيب الذي يرى في مثل هذه التساؤلات انتقاصاً من علمه وخبرته بل من الطب والأطباء بشكل عام.. مع العلم أنّ هذه كلها مجرد انفعالات عابرة فمثلما أن أهل الطب يعالجون بعض المرضى علاجاً نفسياً فهناك من المرضى وأهاليهم من جرّب الطب البديل.. فكلاهما لهذا المجال سابر ولدهاليزه عابر.. عندها تبدأ الأزمة في طريقة وعملية التواصل بينهما وشرح الحالة من فم الطبيب إلى أذن المريض وذويه.. وليعلم طبيبُنا -وهو العالم بذلك- أن المريض لا يُريد من طبيبه المعالج إلا كلاماً لطيفاً وسهلاً غير مُعقّد.. ربما كنصيحة من صديق لصديقه أو همسة من حبيب لحبيبه ولنرى ما ستتركه من أثر عميق في نفسية ذلك المريض.. وليعلم الطبيب أنّ هناك الكثير من جروح "الوهم" التي يُكابدها المريض الماثل أمامه.. وكل ما يطمح به هو كلام قليل من ذهب يُضمّد به تلك الجروح..

ولا يُنكرنّ عاقل هذه الهوّة الحاصلة بين الطبيب والمريض أو ذويه.. ولا نستطيع أن نعمّم فهناك من الأطباء من يتفطّن لها ولا يلتفت لها.. وربما نراه يشق بطن المريض بمشرطه منقذاً لحياته – وكله ثقة بما يفعل- لكنه حتماً لن يشعر بذات الألم الذي يشعر به المريض وحده.. وبين هذا وهذا تبقى هذه الهوّة بينهما والتي تمثلت في البيت الشعري القائل: "لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ.. إن طريقة التواصل بين الطبيب والمريض ستكون -حتما- هي الباب الذي ستدخل منه أولى لبنات إعادة الثقة بينهما.. فلقد وصل مجتمعنا إلى حالة من اللا ثقة يجب أن تعالج وبسرعة..

إنها هوّة يجب أن يردمها الطبيب بتغيير بعض أساليب التواصل مع المريض وكسب ثقته.. وهي في المُقابل فجوة يتوجّب أن يسدّها المريض ببعض الثقة بهذا الطبيب وتقدير وضعه العلمي وأخذ ما يقوله بمصداقية وتقبل نصائحه بأريحية.. فهما قطبا هذه المعادلة ودونما وجود تعاون مغلف ببعض التغاضي فستكون هذه المعادلة خطرة على المدى القريب..

فرفقاً بالمرضى أيها الأطباء.. ورفقاً بالأطباء أيها المرضى..