مدن العلم ومدن الموت

 

 

د. سيف المعمري

 

هناك مدن أسست بنيانها على العلم والمعرفة. ولذا ظلت تنتقل من تطور إلى آخر، ومن اختراع إلى اختراع، لا تكتفي بما أنجزت لأن لديها نزعة دائمة للتفوق على غيرها من المدن من حيث عدد العلماء والباحثين والمكتبات، والتأليف والنشر، تريد أن تزيد عدد العلماء الذين يكون لهم السبق في الفتوحات العلمية، وفي صدارة قوائم الحاصلين على  جوائز علمية ذات مكانة عالمية، هذه المدن آمنت أن حاجتها للعلماء والفنانين والكتاب هي حاجة أساسية ليست ثانوية، لذا هيأت السبل لهم لكي يقوموا بهذه المهمة العظيمة والشاقة، من إمكانات بحثية وحرية علمية وتفريغ وتمويل واعتراف ولذا تقود هذه المدن العلمية اليوم العالم من حولنا، وتتحكم فيه بفضل إنتاجها المعرفي الذي يجعل لها السبق في تطوير كثير من الصناعات المرتبطة بالتكنولوجيا والطب والاقتصاد والهندسة، ويتوالد فيها العلماء والباحثين لأنها لا تجهض أي حمل باحث يساهم في استدامة هذا التفوق العلمي..

وحين يكون الأساس الذي تبنى عليه المدن هو العلم.. تقل كثيرا المظاهر المعادية للحداثة، وتقل أيضا الدعوات الرجعية، والنزعات المتطرفة والعدوانية، ويزداد اللجوء إلى التخطيط العلمي.. وتقل مظاهر الإخفاق والعشوائية.. ولا تترك القرارات المصيرية في هذه المدن لاجتهادات شخصية إنما تبنى في ضوء دراسات تنجز إمّا في المختبرات أو في مراكز البحث، هذه المدن حين تلم بها الكوارث أو الانتكاسات الاقتصادية لا تبدأ بالجامعات أو مراكز الأبحاث في سياساتها الترشيدية بل يزداد إنفاقها عليها لأنّها تدرك أنّ لديها الحلول المبتكرة في إخراجها من أزمتها، وفي دراسة التحولات التي قد تطرأ على النواحي السكانية أو الاجتماعية أو السياسية، ولأنّ هذه المدن مؤمنة بالعلم ودوره في صناعة الحضارة الإنسانية تحوز دائما على جوائز نوبل في مختلف العلوم.. ولأن إيمان المدن غير الصديقة للعلم ضعيف لم تنجح في المنافسة على هذه الجوائز إلا في حالات نادرة ومن خلال أفراد خرجوا مهاجرين إلى مدن العلم حفاظا على دافعيتهم العلمية.. ولم يعمل أحد على إثنائهم عن ذلك.. فالعالم والباحث ليس كرجل السياسة أو رجل الدين اللذين   لديهما قدرة على التلاعب بالجماهير وتحريكهم للدفاع عما يقومون به من أعمال في كثير من الأحيان ليست في صالح أوطانهم، والمؤلم أن يقتصر دور دول في رعاية علمائها البارزين في الاحتفال بتأبين جثثهم عندما يتوفون.

لقد أثبتت مدن العلم في عام 2016 استمرارية تفوقها العلمي حيث حصدت جوائز نوبل، حيث فاز عالم ياباني بجائزة نوبل للطب نتيجة أبحاثه في مجال "الالتهام الذاتي للخلايا"، وتمكن ثلاثة علماء من أصل بريطاني من الفوز بجائزة نوبل للفيزياء بفضل أبحاثهم حول الأسرار الغامضة للمادة، حيث فتحت آفاقا لتطوير مواد مبتكرة، في حين حصل ثلاثة علماء من فرنسا وبريطانيا وهولندا على نوبل في مجال الكيمياء حول تصميم وتركيب الآليات الجزيئية، هؤلاء ما كان لهم أن يحققوا هذه الإنجازات العلمية لولا وجودهم في مدن علمية، تشع فيها أنوار العلم من مكان، سوف تفخر بهم المدن التي ينتمون إليها في يوم 10 ديسمبر حين يحتفل بتسليمهم هذه الجوائز في ستوكهولم، لكي يعطوا دافعا لغيرهم من أبناء مدنهم ليحقق إنجازًا آخر في العام التالي.

يا ترى كيف سيكون حال مدن الموت في مثل هذا اليوم، هذه المدن التي لم تقم على أسس علمية فلم تحصد الجوائز إنما حصدت الفتن والقلاقل والكراهية والانقسام، ولم تصبح المدارس والجامعات مراكز علم تقود عملية تغيير المحيط من حولها لكن المحيط جعلها مسرحا آخر لفتنه وإشكالياته، وظهرت طائفية علمية على غرار الطائفية المذهبية والسياسية والقبلية واحتكرت جامعات وكليات ودوريات على فئات معينة دون غيرها، ولم تنج هذه المراكز من المحسوبية التي تضعف التقدم في عملية التنمية في هذه المدن،  وأصبحت الجامعات مكانا لممارسة النفوذ الوظيفي والاجتماعي فابن عميد الطب في بعض الجامعات يصبح أستاذا في نفس الكلية، ورئيس الجامعة لا يعود إلى قسمه عندما تنتهي رئاسته، والعميد يرفض أن يصبح عضوًا مرة أخرى في قسمه، وهكذا تفسد التربة العلمية وتتلوث، وتموت البذور الصالحة حين تلقى فيها؛ وإن تمكنت من النمو لا تلبث أن يقطع عنها الماء، وأحيانا الهواء؛ من أجل قتلها قبل أن تثمر بما ينفع هذه المجتمعات، التي تعتقد جماعات فيها أن تزايد أعداد العلماء يمثل مؤشر خطر لابد من تفاديه.

في الوقت الذي يصل علماء مدن العلم إلى منصّات التتويج والتكريم؛ يصل علماء مدن الموت إلى الموت عشرات المرات من البيئة المعادية للإبداع والمقيدة لحريته، ولا أزال أتذكر بأسى كبير ذلك الفنان العربي الذي قرأت خبر موته جوعًا وبردا في شوارع إحدى العواصم العربية منذ فترة قريبة في حادثة معبرة جدًا عن حالة الانفصام بين مدننا والعلم، وكأنّها مدن ما خلقت للعلم بقدر ما خلقت للموت.. وأنّ ما قام به المأمون من تأسيس بيت للحكمة حيث كان المترجمين يعطون بوزن ما ترجموا ذهبا ليس إلا حالة استثنائية لن تتكرر.. وكأنّ مدننا تعتقد أنّها قادرة على قهر قوى الظلام بالأسلحة فقط.. وقوى الظلام في الواقع لا تقهرها إلا قوى النور.. والحداثة.. المتمثلة في العلماء. لكن أي تربة يمكن أن تنبت فيها هذه الحداثة؟