أنا وجاري.. من دفتر الذكريات

 

 

طالب المقبالي

 

منذ وعيتُ على الدنيا وأنا أتابع جاري عند خروجه للحقل كل صباح، وهو يسير خلف الثور ويحمل المحراث على أكتافه، إلى أن يصل إلى الحقل المجاور لمنزلنا الطيني الجميل؛ فيطلب مني أحياناً الابتعاد قليلاً خشية أن يجفل الثور من وجودي. فجاري يأنس لوجودي ويستأنس بالحديث معي، فقد كُنت من الأطفال الذين يتَّصفون بالجرأة واللباقة وسرعة البديهة كما يصفني الكبار آنذاك -حسب روايات البعض- ولو أنني أشك في ذلك.

فكنتُ أعشق الزراعة، وأحلم أن تكون لي مزرعة عندما أكبر فأشتغل بالحرث وأنثر البذور وأرويها، ومن ثمَّ أراقبها وهي تشق الأرض بعد ثلاثة أو أربعة أيام حتى تظهر براعم الزرع الخضراء اليانعة الجميلة.

فقد كُنت أراقب جاري حين يمسك بالمحراث ويمشي خلف الثور يشق الأرض ويزيح عنها الحجارة، وكنت أسير خلفه وأساعده في إزاحة الحجارة وهو يسعد بذلك كثيرا ويعتبرني كأحد أبنائه.

وعندما يفرغ من حرث الأرض، يطلب مني الذهاب إلى المنزل، فنذهب سويًّا بصحبة الثور، وأنا أطرح عليه الأسئلة، فأسأله عن الخطوة التالية، فيقول: "غدا بإذن الله حصتنا في الفلج لري الحقل في المساء في المكان الذي قمنا بحرثه، وفي الصباح سوف ننثر البذور ونقلبها بالمحراث مرة أخرى، وفي المساء نسقيها بماء الفلج قبل أن تلتهم الطيور البذور التي ننثرها (وبلهجتنا المحلية بذرناها)".

فيبدأ في نثر بذور القمح أو بذور الباقل أو ما يعرف بالفول حسب نوع الفصول؛ فهناك مواسم لزراعة القمح، وهناك مواسم أخرى لزراعة الفول، وأغلب المواسم صالحة لزراعة الأعلاف كطعام للحيوانات.. كلُّ ذلك وأنا أتابع عمله خطوة بخطوة، وأطرح عليه عشرات الأسئلة التي يتقبلها بابتسامة وفرح - رحمه الله.

فعندما يروي الزرع يطلب مني أن لا أقترب من مكان الحرث وأن ألعب بعيداً، وهو يعلم أنني أقمتُ حقلي الصغير بالقرب من منزلنا تحت الدرج الحجري الذي سقطتُ منه بدراجتي الهوائية "السيكل"، وفقدت الوعي إثر السقوط الذي تسبب في شج رأسي حيث نُقلت إلى المستشفى فأُجريت لي عملية شك الجروح الغائرة في الرأس، وتطلبت العملية شك مجموعة من الغرز ما زالت آثارها باقية حتى اليوم.

حقلي الصغير نموذج مصغَّر للحقل الكبير، لكنني كنت أزرع نباتات أخرى وخضارا كالطماطم والفلفل والخيار والجزر، والسبال أو الفول السوداني والدنجو "الحمص"، وكنت أنتظر بضعة أشهر كي أجني الجزر، وستة أشهر كي أجني الفول السوداني "قرون السبال"، وكنت أروي زرعي بالفائض من الفلج، فهو حقل صغير لا يحتاج الكثير من الماء.

وتدور المواسم ويأتي طلع النخيل، فأرافق جاري حيث يقتلع نبات الطلع من الفحل وهو النبات المخصص لتلقيح النخيل، وفي زاوية أخرى من الحقل يوجد فحل آخر نباته غير صالح لتلقيح النخيل لعدم احتوائه على غبار الطلع أو اللقاح، وإنما هو نوع طري هش يعرف باسم "فحل الغيض" صالح للأكل فقط ولذيذ الطعم، فيقتطع لي عضقاً "عوض" فيهديني إياه كمكافأة لي على صحبته في الحقل، فأحمله إلى منزلي فرحا وكأنني أهديت علبة الشوكولا الفرنسية.

رحم الله جاري وكل من كانوا يعتنون بالزراعة وأسكنهم فسيح جناته.

وعلى النقيض تماما، فقد أصبحنا نشاهد العامل الوافد خلف الثور، وهو من يحمل الصوع والمخرف والمخلب والمجز، فأصبح هو من يحرث الأرض، وينثر البذور، ويروي الزرع، وينبِّت النخيل ويشرطها ويحدرها ويسجرها، ويخرف الرطب، ويجد ويكنز جراب التمر، ويزاحم الباعة في السوق بمنتجات حقولنا التي رحل عنها الآباء والأجداد، وتركناها للأغراب، وتخلينا عن مهنة أسلافنا، التي لو أوليناها اهتمامنا لما احتاجت بلادنا الاستيراد من الخارج، ولوفرنا على ميزانية دولتنا الكثير والكثير، بل ورفدناها بما يقيها شر الأزمات الاقتصادية المتتالية وتداعياتها المقيتة.. لكننا أخلدنا إلى الأرض، فرَحَلنا عن الجنان التي ورثناها لنسكن في الصحاري الحارقة.

 

muqbali@hotmail.com