إسرائيل في قاعات القمم العربية

 

 

زاهر المحروقي

في عدد أكتوبر 1999، من مجلة "الكتب: وجهات نظر" -أيْ قبل 17 عاماً من الآن- كتب الراحل محمد حسنين هيكل مقالاً مطولاً، فيه تفاصيل دقيقة عن الحضور الرسمي للموساد الإسرائيلي داخل قاعات القمم العربية؛ وهو المقال الذي نشره فيما بعد في كتابه "كلامٌ في السياسة" عن الدار المصرية للنشر العربي والدولي. واليوم -وبعد هذه السنين- سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشر تفاصيل حضورها الرسمي لإحدى القمم العربية التي عُقدت قبل 51 عاماً في المغرب، ضمن تقرير مطوَّل ومفصَّل نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في عدد الخميس 13/10/2016، ليأتي التقرير مؤكداً للمعلومات التي قدمها هيكل.

ربما الجيل الجديد من أبناء الأمة العربية لا يهتم بقضايا كهذه الآن؛ لأن القضية الفلسطينية أُبعدت عن اهتماماتهم عمداً ضمن خطة مدروسة وطويلة الأجل، ولأن اهتماماتهم تغيرت بوصلتها، فأصبحوا يعيشون دون قضية، إلا أن تسليط الضوء على أحداث الماضي، يعطي إجابات عن أسئلة كثيرة، خاصةً فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، وكيف استطاعت إسرائيل أن تنتصر على العرب في كل حروبها؟ وأين مكمن الخطأ؟ وغيرها من الأسئلة. ولكن يجب أن نقول باختصار: "إذا عُرف السبب، بطل العجب"؛ فتكفي المعاناة والمؤامرات التي ذاقتها مصر من الأنظمة الرجعية العربية، التي توافقت مصالحها مع المصالح الإسرائيلية حتى لحظتنا هذه.

يُشير تقرير الصحيفة الإسرائيلية إلى أنه في الثالث عشر من شهر سبتمبر 1965، عُقد في الرباط مؤتمر القمة العربية. توافد الزعماء العرب إلى المكان، ولكنَّ أحداً منهم لم يكُن يعلم أن الموساد الإسرائيلي أقام له فرعاً هناك بموافقة رسمية، وأنه كان يتجسس من هناك على أعداء إسرائيل، وفي مقدمتهم مصر، التي كان يقودها الزعيم جمال عبد الناصر. وتشير الصحيفة إلى أن العلاقة بين الموساد والمغرب بدأت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، على خلفية طلب المغرب من إسرائيل تقديم المساعدة في تصفية المُعارض المغربي الشهير، المهدي بن بركة. وقد تم تخصيص جناح كامل من الفندق الذي عُقدت فيه القمة العربية لرجال الموساد، لكي يتمكنوا من توثيق وقائع المؤتمر، الذي كان مغلقاً في قسمه المُهم، ولكن في اللحظة الأخيرة أصدر ملك المغرب تعليماته بإلغاء الخطة، خشية اكتشاف أمر تواجد مئير عميت رئيس الموساد ورجاله في الفندق. ولكن عدم تواجد الموساد داخل قاعة المؤتمرات لم يقلل من أهمية الحدث ومن تداعياته؛ فبحسب الجنرال شلومو غازيت رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) آنذاك، الذي تحدث للصحيفة، فقد حصل الموساد بُعيد انتهاء المؤتمر على جميع المعلومات والوثائق والمستندات والخطابات التي أُلقيت في المؤتمر. (لكن هيكل يشير إلى أن الموساد هو الذي تولى تسجيل وقائع الجلسات وتجهيز الميكروفونات). ولفت الجنرال شلومو جازيت في سياق حديثه إلى أن القضية الأكثر خطورةً، والتي كُشف النقاب عنها، كانت تتعلق باستعدادات الجيوش العربية لمحاربة إسرائيل، أنه "عندما حصلنا على الوثائق، تَبَين لنا أن جميع قادة الجيوش العربية أكدوا خلال كلماتهم على أن الجيوش العربية ما زالت بعيدة عن أنْ تكون جاهزةً ومُستعدةً لخوض الحرب ضد إسرائيل". وبالتأكيد عندما يعرف عدوك عدم استعدادك لمواجهته، فإنه سوف يتصرف على ضوء ذلك ولن يخشى المواجهة أبداً، إذ هي محسومة من الأساس؛ لأن النصر يُحقق خارج ميادين القتال؛ لذا فإنَّ الجنرال شلومو يصف معلومة عدم جاهزية الجيوش العربية للحرب بأنها كانت بالنسبة لإسرائيل أكبر كنز إستراتيجي، وقام الموساد بنقلها للقيادات السياسية والعسكرية. وحسب تصريح الجنرال شلومو، فقد نشب خلال القمة جدال ممزوجٌ برفع الأصوات بين الزعيم  جمال عبد الناصر والعاهل الأردني الملك حسين. وفي الواقع، عندما يستطيع أي جهاز أن يخترق أعداءه كما فعل الموساد ضد الزعماء العرب، فإنَّ ذلك من دواعي الفخر بالنسبة لهم. ومن هنا، فمن حق الجنرال شلومو غازيت أن يصف ما حصل بأنه من أهم الإنجازات التاريخية التي حصلت عليها المُخابرات الإسرائيلية منذ إقامة الدولة العبرية وحتى اليوم؛ لأنَّ "تحليل التسجيلات أكد لصناع القرار في تل أبيب أنَّ الأحاديث العربية عن مشروع الوحدة ما هي إلا ثرثرة لا أكثر ولا أقل، وأنه لا يوجد بين الدول العربية موقفٌ موحدٌ ضد إسرائيل؛ وقد تبين للمُخابرات الإسرائيلية أن الجيوش العربية ليست جاهزةً لخوض حربٍ ضد إسرائيل، وهذا الأمر أكد للقيادة العليا في الجيش ما كانت تشعر به دائماً، بأن الجيش الإسرائيلي سينتصر في المعركة ضد مصر. توصلنا إلى نتيجة مفادها أن سلاح المدرعات المصري في حالةٍ مُزريةٍ للغاية، وليس مُستعداً للقتال".

ومن الأسباب التي جعلت إسرائيل تتفوق على الأمة العربية -طبعاً ضمن أسباب أخرى كثيرة- هو علمها بدقة بكل صغيرة وكبيرة مما يدور داخل الكواليس العربية وعلى مستوى القيادات؛ ومن ذلك: حضورها الرسمي للقمم العربية سواء بممثليها غير المعلنين أو بحضورها عبر أجهزة التسجيل؛ فدائماً عندما يعلم عنك عدوك كل التفاصيل فهذا يعطيه قوة السيطرة عليك؛ لأنه يعرف تفكيرك ويعرف أيضاً خططك وخطواتك، وقد نفهم دواعي اختراقِ إسرائيل للعرب، ولكنَّ السؤال المحير هو: لماذا يلجأ العرب إلى الخيانة وإلى نقل المعلومات إلى إسرائيل، ومِن قِبَل أشخاص معتبرين ومقربين من سلطة اتخاذ القرار أو حتى من بعض الزعماء كما أشير ونشر في الصحافة العالمية؟!

الآن.. وبعد أن نشرت إسرائيل وثائقها السرية عن اختراق أهم القمم العربية؛ فالحقيقةُ تقول إنَّ إسرائيل كانت حاضرة في القمم العربية، وسجَّلت كل شيء بالتفصيل، ولم يعد سرًّا أن إسرائيل كانت على علم بموعد حرب أكتوبر، وبالتنسيق المصري السوري في ذلك، ولم يعد سرًّا أن عملاء إسرائيل هم الذين زودوا إسرائيل بتحركات قيادات حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية قبل أن تغتالهم؛ إذ إنَّ التفاصيل الكاملة عن ذلك منشورة عبر فيلم وثائقي من إنتاج وزارة الداخلية الفلسطينية تم عرضه يوم 28/6/2012، به اعترافات خطيرة عن كيفية تعامل هؤلاء الجواسيس مع إسرائيل، وكيف ابُتزوا وقدموا معلومات عن المقاومة، وكيف شاركوا في اغتيال شخصيات مُقاوِمة ووطنِية.

لقد كان الاختراق الإسرائيلي الكبير والمعلن ضد مصر عبر شخصية مهمة هو أشرف مروان صهر عبدالناصر ومدير مكتب الرئيس السادات للمعلومات، الذي عُيِّن بعد ذلك وزيراً لشؤون مكتب الرئاسة، والذي دارت حوله الكثير من الأقاويل والتهم، ولكن الحقيقة ظلت غائبة لأن الرئيس السابق مبارك دافع عنه ووصفه بأنه رجل وطني، إلا أن الأستاذ هيكل كشف الغطاء عن هذه الشخصية في كتابه الأخير "مبارك وزمانه-من المنصة إلى الميدان" حيث ذكر تفاصيل دقيقة، تؤكد أن مروان كان عميلاً لإسرائيل، وزودها بمعلومات دقيقة عن حرب أكتوبر. وقد ترك هيكل الأمر للقارئ أن يكتشف ذلك بنفسه، ولنا أن نتصور كيف وصلت إسرائيل إلى بيت عبد الناصر نفسه!

وبالسياق نفسه، يُمكن الإشارة إلى أنَّ الوثائق التي نُشرت في أمريكا اتهمت بعض القيادات العربية علناً بأنَّ هناك من هو عميل للمخابرات الأمريكية وكان يتقاضى راتباً شهريًّا على مدى أكثر من 20 عاماً، هي أصعب الفترات على الأمة، خاض فيها العرب حروب 56 و67 و73؛ وفي حالة كهذه فلا غرابة أبداً من الهزائم الثقيلة التي مني بها العرب. ويبقى أن أقول إن الحقيقة الكاملة في يد التاريخ، ولن تطول الأيام حتى تظهر الحقائق، وقد بدأت بالفعل تظهر.

لإسرائيل مبرراتها بأن تزرع الجواسيس في كل مكان؛ فالخوف الأبدي يحتم عليها ذلك، ولكن هناك ألغاز تدور في ذهني ولا أجد لها جواباً. كيف لمن يُفترض فيهم أن يكونوا أمناء على الناس والأمة، يصل بهم الأمر إلى وضعٍ كهذا؟!!.. رحم الله الشاعر عمر أبو ريشة القائل:

"لا يُلام الذئبُ في عدوانه...

إنْ يكُ الراعي عدو الغنمِ".