"تنفيذ".. وحوكمة التنويع

 

 

عمَّار الغزالي

بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة -أعزَّه الله- يأتي برنامج "تنفيذ" كبرنامج مُتكامل ذي خطوات منهجية لتعزيز التنويع الاقتصادي، والآمال المعقودة على البرنامج كبيرة في أن يُعِيْن في التغلب على إشكاليَّتين رئيسيَّتين يُواجهمها الاقتصاد العماني؛ الإشكالية الأولى: العجز العالي في ميزانية الدولة، والذي يرجع إلى انخفاض أسعار الطاقة، وحتى لو نجحنا مُؤقتاً في تغطية العجز فهو نجاح مُؤقَّت مُرتبط باستخدام الاحتياطيات وتسييل الأصول وزيادة حجم الدين العام. والإشكالية الثانية: تزايد أعداد الباحثين عن عمل؛ بسبب عدم قدرة القطاع العام على المزيد من التوظيف، وضعف القطاع الخاص الذي ازداد وهناً على وهن بعد انخفاض مُخصَّصات المشروعات الإنمائية الحكومية؛ حيث إنَّ القطاع الخاص عندنا في السلطنة لا يزال ريعيًّا يعتمد بشكل شبه كلي على القطاع العام.

وفي حقيقة الأمر؛ تبنَّت الحكومة سياسة التنويع الاقتصادي منذ الخطة الخمسية الأولى عام 1976، لكن لم يتحرَّك ساكنٌ في الخطط الخمسية الأولى بسبب أولويات ماسَّة تتعلق بالأمن والاستقرار والتعليم والصحة وأساسيات البنية التحتية من كهرباء ومياه...وغيرها، والمنجزات التي تحقَّقت عظيمه، ولاقت إشادات عالمية قفزتْ بالإنسان العُماني من العصور الوسطى إلى مستوى عيشٍ كريم، ثم أكَّدتْ الحكومة على التنويع مرة أخرى عام 1995، مع الإعلان عن "عُمان 2020"، إلا أنَّه ومع الأسف لم يتحقَّق في هذا المضمار إلا القليل؛ بالتأكيد هناك أسباب جوهرية لابد من الوقوف عندها، ولا نقف عندها من باب إلقاء اللوم والتمني والتشكي، ولكن من حقنا أن نأخذ من ماضينا الدروس لمستقبلٍ أفضل، فلا نريد أن نسلك نفس الطريق لأنه بالتأكيد سيؤدي بنا إلى نفس النتائج.

"تنفيذ" يتميَّز بعدة مُقوِّمات؛ الأولى: مشاركة رسمية ومجتمعية واسعة في الحوار وصياغة الحلول، إضافة إلى التفاعل الكبير من الرأي العام؛ من خلال وسائل الإعلام الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي. الميزة الثانية: الاختيار الموفَّق للتجربة الماليزية الرائدة في تنفيذ البرامج وتقييم الأداء. والميزة الثالثة: الانتقال من العموميات والأدبيات إلى عُمق التفاصيل؛ من خلال برنامج منهجي مُتسلسل يمنع الانحراف عن المسار العام؛ لأنه كما يقول قانون مورفي المعروف -والذي يختصر لنا الفطرة البشرية- "إذا توفرت الإمكانية لحدوث خطأ ما، فحتماً سوف يحدث".

إلا أنَّه وبالرغم من وفرة المقومات، سيبقى نجاح "تنفيذ" مرتبطاً بالتغلب على عِدَّة تحديات رئيسية؛ أولها: حوكمة التنفيذ؛ فلا يخفى على أحد أن تطبيق مبادئ الحوكمة والإفصاح ومنع تضارب المصالح يعد أساسَ الازدهار الاقتصادي للأمم، ومهما حاولنا تأجيل الحديث عنها سنجدها أمامنا تلقائيًّا عند كل نقاش جاد للتحول إلى العالم الأول. وخير شاهد على ذلك: التجربة الماليزية الرائدة، والتي يستعين بها برنامج "تنفيذ" حالياً، نجحت فقط عندما تمَّ تصميم جهه إشرافية (PEMANDU) للتنفيذ بحوكمة صارمة، لا تسمح للبرامج والخطط بالفشل أبداً، لقد أُعطيت هذه الجهة في ماليزيا الاستقلالية الكافية والصلاحيات اللازمة للتقييم والمحاسبة؛ فليس هناك المزيد من الوقت لتضييعه، وليس هناك المزيد من الموارد لهدرها. ولابد أن تكون آليات التقييم مُحايدة وموضوعية وشفافة، بعيدة تماماً عن العواطف والمجاملات وتسجيل المواقف الشخصية أو المصالح الذاتية أو الأجنده الخاصة؛ فهدفنا جميعاً المساهمة بوطنية خالصة في بناء وطن غالٍ له حقٌ علينا، عزيزٌ على قلوبنا جميعاً، تَغذينا من خيراته، وتَربينا تحت سمائه، نشتاق له ونحنُّ إليه كلما غبنا عنه حنين الرضيع إلى أمه، يُعبر عن هذا الحنين مصطفى صادق الرافعي بقوله:

ألم ترَ أن الطيرَ إن جاء عشهُ...

فآواه في اكتافهِ يترنمِ 

بلادي هواها في لساني وفي دمي...

يمجدها قلبي ويدعولها فمي

التحدي الثاني: هو شمولية الموضوع وتشعُّبه. وفي الواقع هنا يكمُن تعقيد التعامل مع القضايا الاقتصادية؛ حيث إنَّ قرارًا معينًا من جهة معينة قد يحمل معه الكثير من التبعات المباشرة وغير المباشرة على المشهد الاقتصادي العام؛ لهذا فكلما كانت الإستراتيجية العامة واضحة ومحددة، كان الوصول للهدف أسهل وأسرع، وكلما كان التنسيق بين الجهات الرسمية أقوى كان الإنجاز أكبر، ولن نستطيع أن نصل إلى الهدف ما دام التركيز على الحلول قصيرة المدى وليس الحلول الهيكلية الجذرية، وحتى لو وصلنا إلى بعض النتائج الإيجابية المؤقتة فستكون هشَّة وغير قادرة على الصمود أمام المتغيرات المستقبلية. ومن هنا، تأتي أهمية وضوح الإستراتيجية وتكاملية الجهود تحت مظلة واحدة، وإلا مع الأسف سنجد أنفسنا نتبنَّى سياسات مُتعارضة في نفس الوقت؛ مما يؤدي إلى ازدواجية الأدوار والإخفاق في تنفيذ الخطط.

لقد أصبحت مسألة تناغم السلطات مسألة مُلِحة لا مجال لتجاهلها حتى في الاقتصاديات المتطورة، ففي يونيو 2012، نشرت جامعة كرانفيلد البريطانية دراسة أجراها البروفيسور أندرو كاكابدسي أستاذ التنمية الدولية، والتي توضح أسباب فشل الموائمة أو ما يسمى (authority alignment) بين وحدات السلطة التنفيذية في المملكة المتحدة، ثم بين السلطة التنفيذية من ناحية والسلطة التشريعية والرقابية من ناحية أخرى، وتداعياتها السلبية على كفاءة الاقتصاد البريطاني وتنافسيته.

لابد من مُواجهة هذه التحديات بكل شفافية، ولابد من تعاون وتكاتف الجميع كقطاع عام وقطاع خاص ومجتمع مدني للوصول للهدف المنشود، وبعون من المولى تعالى وبجهود أبناء عمان الأوفياء سينجح "تنفيذ"، وسيؤتى الزرع ثمره، وستستمر مسيرة البناء في ظل القيادة الحكيمة للحضرة صاحب الجلاله حفظه الله، لُتستكَمل مراحل التنمية وتُبنى دولة المؤسسات.

ammaralghazali@hotmail.com