طالب المقبالي
هذا ما نراه الآن؛ فمواقع وبرامج التواصل الاجتماعي، وبالخصوص الواتساب، قد سرقتْ أوقاتنا، وقضتْ على إبداعاتنا وعلاقاتنا، وأصبحت شغلنا الشاغل.
وسأبدأ بنفسي وما ألحقه "الواتساب" تحديداً دون غيره من خسائر جمة في حياتي رغم تنظيمي الدقيق لأوقاتي، لكن المجتمع المحيط بي والذي سَلَب عقله "الواتساب" كان داعما لـ"الواتساب" في تدمير إبداعاتي، والقضاء على أوقاتي التي كنت أقضيها في الأمور التي كنت أتقنها وأمارسها.
فقد كُنت أكتب الشعر وقد توقفت عن الكتابة نهائيًّا لأنني فقدت الوقت وحاسة التذوق الشعري، وكنت أصمم مواقع الإنترنت وقد تركتها منذ أن ظهر "الواتساب" في حياتنا، وكنت أصمم برامج الهواتف الذكية وقد توقفت عنها، وكنت أمارس الرياضة اليومية فأصبحت أمارسها بشكل متقطع، وكنت أصور وأنشر مقاطع فيديو سياحية فأصبحت أتكاسل عنها، وكنت أزور الأقارب والأصحاب فانقطعت عنهم بحجة أننا أنشأنا مجموعات "واتسابية" نلتقي فيها كل حين، وندَّعي أننا استغنينا عن الزيارة متذرعين بأنَّ الهدف ليس الجلوس معا وتناول الطعام، وإنما اللقاء والحديث معا، وليطمئن كل منا على صحة الآخر.
البعض سيقول إنَّني لا أجيد تنظيم وقتي؛ وبالتالي أعطيت جل وقتي لـ"الواتساب"! لو راجع كلٌّ منا نفسه سيجد هذا لا ينطبق عليَّ وحدي، وإنما الغالبية منا إن لم يكن الجميع، لكن البعض يكابر بأنه قد أصابهم ما أصابني.
وهنا سأطلعكم على مُسبِّبات ذلك، وعلى اتهامي للمجتمع المحيط بي، والذي قلت بأن "الواتساب" قد سلب عقولنا فكان داعما له في تدمير إبداعاتنا والقضاء على أوقاتنا.
كل يوم أتلقى اتصالات من زملاء وأصحاب ومن أناس لا أعرفهم، ولكن من خلال متابعة مقالاتي في جريدة "الرُّؤية"، ومن خلال المواضيع التي أطرحها في "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستجرام" و"يوتيوب"، أتلقى اتصالات بطلب إضافتي في مجموعات "واتسابية" يدَّعون أنها مجموعات تخصصية مفيدة؛ وبالتالي ستجد العتاب والغضب والزعل والقطيعة أحيانا إنْ لم تشارك في تلك المجموعات دون تقدير لظروفك ولارتباطات خارج العالم الافتراضي.
كذا الحال؛ فالبعض يُراقب حالة تواجدك من خلال آخر ظهور لك في الواتساب فيرسل لك رسالة، فيا ويلك إن لم ترد! وهنا الظهور ليس معناه أنك منشغل في الواتساب، لكن هاتفك متصل بالإنترنت، ولا يجب أن نحاسب الناس على عدم الرد؛ فقد تعلمنا حِكَمًا نرى اليوم أننا في أمس الحاجة إلى تطبيقها.. مثال: "الغائب حجته معه"، "التمس لأخيك العذر"، لقد أصبحت هذه معدومة الآن.
فلو راجع كل منا نفسه، سيجد أنه يُراسل زوجته وهما على سرير واحد، فيبادلها الابتسامات "الفيسات"، وآخر يُراسل أولاده في الغرفة المجاورة ويسألهم عن المذاكرة! أليس الأجدر بأن يذهب إليهم ويجلس معهم ويذاكر معهم دروسهم؟ ومثال آخر: أصدقاء خرجوا رحلة وأنشأوا مجموعة "واتسابية" يتراسلون من خلالها، وكل منهم أخذ مكانا مُنفصلا عن الآخر! أليس الأجدر أن يغلق كل منهم هاتفه ويستمتع باللحظة التي قد لا تتكرر؟!!
بالله عليكم، أليس "الواتساب" يُفرِّق ولا يُقرِّب؟ أليس "الواتساب" سرق أوقاتنا؟
البعض يتساءل: "لماذا "الواتساب" فقط وليس جميع وسائل التواصل الاجتماعي؟"، الجواب: لأنَّ "الواتساب" أصبح كل شخص يستخدمه. أما بقية وسائل التواصل، فقد تجد كثيرًا من الناس لا يستخدمونها، وكثيرين لا يجيدون استخدامها. أما "الواتساب" فمع الأُمِّي والمتعلم؛ فحتى الذي لا يقرأ ولا يكتب يُراسل بالرسائل الصوتية.
وهنا.. أودُّ أنْ أُطلعكم على قصة وقعتْ لِي نهار عيد الأضحى المبارك؛ حيث تعرَّض هاتفي للعطل، فأصبح لا يتعرَّف على الشريحة؛ وذلك ربما بسبب الضغط الشديد على الشبكة، في حين أنَّه مُتصل بالشبكة المنزلية "واي فاي"؛ وبالتالي "الواتساب" وغيره من وسائل التواصل تعمل بكفاءة. وقد تصادف أن اتصل بي هاتفيا عددٌ من الأصدقاء والأهل فوجدوا هاتفي "مغلق"، البعض وسوست إليه نفسه بأنني أغلقت هاتفي بقصد منع التواصل معهم؛ وذلك للعتاب الكبير الذي تلقيته منهم؛ فبرغم توضيح الأمر لم أجد أية ردود منهم توضِّح أنهم تقبلوا هذا الظرف، في حين أنَّ البعض قد تفهم الوضع واقتنع بالظرف الطارئ.
حدث هذا لأنَّ البعض ينظر إلى حالة تواجدي على "الواتساب"، وربما يتساءل في نفسه كيف يكون مُتصلا وهاتفه لا يستجيب للاتصال الهاتفي.. من هنا، ساور البعض الشك أنني قد حظرت أرقامهم! كيف أحظر أرقام الناس وأنا بأمس الحاجة إليهم؟! كيف أحظر أرقامهم وأنا بأمس الحاجة إلى تواصلهم وسماع أصواتهم؟! الناس بالناس، والانسان اسمه مُشتق من الأنس.. فهل ستصبح فعلا وسائل التواصل سببا في التباعد؟!
muqbali@hotmail.com