د. عبدالله باحجاج
يبدو أنَّ صرخات فئات الضمان الاجتماعي بشأن "العيدية" كانت في وادٍ سحيق، فرواتب شهر ديسمبر قد تحوَّلت إلى البنوك دون "العيدية"، وكان هذا آخر أمل هذه الفئات، فماذا هم فاعلون بقروض العيد على أمل "العيدية"؟ فكانت كل المؤشرات قبل العيد بيوم واحد أنَّ "العيدية" ستمنح لهم، ومن أهم هذه المؤشرات منح العيدية للكثير من الموظفين، وتسريب معلومات بشمولية العيدية وليس فئات الضمان الاجتماعي فقط، كما أنَّ أحدا لم يكن يتصور أنها ستقطع عن هذه الفئات أبدا؛ للأسباب التي ذكرناها في مقالنا السابق "أين عيديتنا؟".
ويبدو المشهد الآن مُنقسما على صورتين متناقضتين تماما، وتطرحان مجموعة تساؤلات كبيرة؛ الأولى: فرح بالعيدية عن الكثير من الموظفين. والثانية: حُزن وفقر وغلاء وديون عند فئات الضمان الاجتماعي -تحديدا- هكذا يبدو المشهد الآن واضحا بين من أعطي العيدية قبل عيد الأضحى المبارك، وهم يستحقونها، وبين من حُرِم منها، وهم الأكثر استحقاقاً، والحديث هنا ليس عن الاستحقاق من عدمه، فكل المواطنين يستحقون الدعم، وقد عوَّدتهم الحكومة على ذلك، لكن -وهذا هو الأهم- كيف يُسمح لمؤسسات دستورية -رفيعة المستوى- بصرف عيدية عيد الأضحى المبارك فيما يحرم منها فئات الضمان الاجتماعي؟ التساؤل يعبر عن ردة فعل مجتمعية حادة، ننقلها بصوت مرتفع في إطار دفاعنا عن حقوق فئات الضمان الاجتماعي، ونعتبر قلمنا هنا صوتا لها، لعدم مقدرتها على رفع صوتها كالآخرين، ولسنا هنا ضد المنح، وإنما نستشهد به للاستدلال على أحقية كذلك فئات الضمان الاجتماعي، وهو استدلال يعضد الاستحقاق من حيث المبدأ، كونه تنتجه مكرمة سامية، وكفى بها استدلال حصريا للحقوق -كما أكدنا على ذلك في المقال السابق- لكننا نحاجج بالاستدلال الجديد بعد ما انكشف لنا بُعَيْد نشر هذا المقال أنَّ هناك وزارات -محددة بالاسم- بعضها مُؤثرة في صناعة القرار، منحت موظفيها العيدية قبل العيد، كما أكَّد لنا مصدر موثوق كذلك بأن الأجهزة والمجالس ذات الشخصية المعنوية العامة والمستقلة قد انتهج الشيء نفسه. إذن، حق العيدية لفئات الضمان الاجتماعي قائم، ولن تسقطه أية حجية مهما تعاظم شأنها بما فيها الحجة المالية التي تنتفي بعد صرف العيدية من قبل العديد من الوزارات والأجهزة والشورى و(...) كيف نفسر هذا التناقض الصارخ؟ بل كيف يقبل أن يُقصَى المستحِق الحقيقي عن حقه المتأسس بمكرمة سامية، وهى لها قوة أعلى من قوة القانون، رغم أن مصدرهما -أي المكرمة والقانون- واحد، لكن الترجيح يميل للمكرمة كونها تحمل مضامين إنسانية واجتماعية غالبة، وتأتي فوق المؤسسات الحكومية، وهى لا تسقط إلا بسقوط الظروف المنشئة لها، فهل سقطت؟ بل العكس تأزمت، وهى في طريقها لاستحكام حلقاتها على هذه الفئات. إذن، كيف تقطع المكرمة السامية عن فئات الضمان الاجتماعي؟ المتأمل في الجهات التي أُعطي لها الحق في منح العيدية، سوف يجد وراءها قوة وزارية حاسمة، سواء كانت في قوة المؤسسة نفسها أم قوة رئاستها أو كلاهما، فمن تكن لديه هذه القوة تفتح له خزينة الدولة، والعكس صحيح، وهذه قضية ليست جديدة، بل قديمة، وقد لاحظنا تطبيقاتها كذلك في وجود أنظمة عديدة للتقاعد، أكثر من عشرة أنظمة، وكل نظام يعطي موظفيه راتب تقاعد ومكافآت ما بعد الخدمة أكثر من الآخر، وهذه الأنظمة تشطر موظفي الدولة، وتقسم اتجاهاتهم وولاءاتهم الوظيفية، وتجعل أمزجتهم النفسية تتصارع حتى داخل الأسرة الواحدة، مما حدا بالتوجيهات السامية أن تتدخل لتوحيد هذه الانظمة في نظامين على الأقل حسب ظروف ومعطيات بيئات العمل، ورغم ذلك لم تنفذ هذه التوجيهات حتى الآن، للتطويل والتسويف حتى انفجرت الأزمة النفطية، وأجلت كل توجه بسبب انخفاض عوائد الدولة المالية. من هنا، يتكرر معنا نفس المشهد في عيدية عيد الاضحى المبارك، فقوة الوزارات والجهات الممنوحة لها العيدية قد طوعت لصالحها القرار المالي، وظل المتضرر الأكبر فئات الضمان الاجتماعي، فهل تفتقد لعنصر القوة؟ فمن ينبغي أن يدافع عن حقوقها؟ من الناحية القانونية، تظهر لنا وزارة الشؤون الاجتماعية، وقد حاولت، لكنها يبدو أنها أخفقت، ومن الناحية السياسية، هناك قوة المكرمة السامية، وهى قوة عليا فوق كل القوى، ويفترض أن لا تتجرأ الجرأة للمساس بها، لكن، من يجب أن يدافع عن المكرمات؟ بمعنى ضمان ترجمتها، والعمل على الحفاظ على قدسيتها وهيبتها؟ طبعا هناك مؤسسة دستورية عليا، إذن، لماذا لا تعمل على ضمانة العيدية للضمان الاجتماعي على غرار ما فعلت لموظفيها؟ لابد أن نوجه لها هذا التساؤل بعدما انكشفت لنا إمكانية صرف العيدية من المنظور المالي، والكل مستحق للعيدية، لن نصادر هنا الحقوق، لكن ينبغي أن يشمل هذا الحق كذلك فئات الضمان الاجتماعي، وهى الأولى بالحقوق للاعتبارات التي أوضحناها في المقال السابق.
وهذا يعني أنَّ حق العيدية لفئات الضمان الاجتماعي قائم، ولن يسقط مهما تقادم، بحجية الإمكانية المتاحة للأخرين، وهى حجية تعزز حقهم الإنساني الذي تمنحه لهم المكرمة السامية، وتلقي بتبعية إقصائهم من العيدية ليس للجهة المالية فحسب، وإنما كذلك للجهة التي كان يجب أن تنهض بمسؤوليتها في تأمين استحقاقات المكرمة السامية، بل كل المكرمات الساميات التي تُعلن ولم تنفذ، أو تنفذ بكيفيات تفقد بريق المكرمة وتبطل مفاعيل تواقيتها الزمنية، وعدم منح العيدية، مؤشر خطير يكشف لنا مستقبل البعد الاجتماعي في التحول الاقتصادي 2040، ففيه رؤية نافذة للتخلي عن مكتسبات اجتماعية لمثل تلك الفئات الجديرة بالرعاية والأولى بالدعم، فإذا غيبت من هذا الاستحقاق، فعلينا أن نتوقع تغييبها أثناء انتقالنا من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، وهنا ينبغي أن نتوجه إلى المجتمع، فكل مجتمع محلي من مجتمعاتنا الإقليمية، يستوجب عليه الآن أن يؤسس صندوقا للتضامن الاجتماعي، يُساهم فيه الفاعلون المجتمعيون والشركات التي تعمل على تراب كل محافظة بعد حصرها وفتح حوار معها، ورغم ذلك لن يسقط دور الحكومة، فدورها لن يلغي دور المجتمع، ويجب أن يتعاضدا لتجسيد الأمن الاجتماعي للفئات الاجتماعية المستحقة، ويظل إسقاط عيدية الضمان الاجتماعي فعلا مؤشرا خطيرا للمستقبل، ويدين المؤسسات التي قبلت أو تفرجت على هذا الإسقاط!!