تجاهلٌ وليس جهلًا!

 

 

هلال الزيدي

تذوبُ المساحيق بعد لفحة الشمس لأنها لم تقو على الثبات، فتسيحُ على الوجوه مكوِّنة أزقة تحتاج إلى تتبع وتفحص؛ فتتكشف السوءةُ وتظهر الحقائق بعد سطوع النور؛ فتتمزق الأقنعة وتنهار الوجوه، ويعم السواد الذي أخفته لفترات طويلة، مُحاولة أن تبدو بغير تكويناتها وما تضمره تجاه الآخرين؛ لأنها "هي" أو "هو" مجرَّد خواء يعيش في الخفاء يتغذى على سذاجة مجموعة من البشر، أو تجاهل أولئك الذين عرفوا أبعاد تلك الشخوص. فتتمادى في غيِّها مُعتقدة بأن ألاعيبها لم تعد مكشوفة، وعلى الرغم من ذوبان المساحيق تبقى هناك عقول تتقن مبدأ التجاهل مبتعدة عن الإساءة لمن يُسيء إليها؛ لأنها انتهجت الحكمة وعدم الزج بنفسها في حوارات عقيمة لا تتوافر فيها الندية. هنا تتبدَّد الغربة والمجاملة التي رُبما كانت هروبًا في فترة من الفترات. هم هكذا لأنهم لم يفرقوا بين التمرة والجمرة، فحسبوها جميعها تسد سغبات الجوع، يا للوقاحة الممتدة بامتداد تلك الوجوه، لكن إلى أين؟ إلى فضاء يضيق باتساع الأقنعة، لتتهاوى كحبات السبحة عندما تنفك عنها العقدة؛ لذلك تجاهلوهم ولا تزدروهم مهما كانت مساحيقهم.

تعدُّ ثقافة التجاهل من الثقافات المهمة التي علينا أن نسبر عمقها، ونتأسى بها؛ كونها تؤثر وتغذي سيكيولوجية الثقة لدى الفرد؛ فكلما تعمَّقنا فيها من حيث التطبيق استطعنا أن نحقق أهدافنا دون أن نأبه بما تحيكه تلك الوجوه من مغبات في التعامل وزرع العثرات من أجل تأخيرنا عن تحقيق ما نصبو إليه؛ لذلك ومع تعقد المصالح الإنسانية الاجتماعية فقد فقدنا ظاهرة التغافل، مما زادت حساسيات المواقف وانكمشت العقول لتبحث في اللامعقول مخلفة أجساد تئن جراء طغيان المادة على مختلف أشكالها؛ نظرا لاهتمامها بجزئيات لا تغني ولا تسمن، وبالتالي ركزت فكرها ووقتها وصحتها للرد على تفاهات مقيته هدفها فقط تكبيل النجاحات وزرع الأشواك في طريق المتفائلين الذين ينغمسون في نزاهة القول والفعل.

يقول جبران خليل جبران: "أنا لا أجيد ثقافة الإساءة، ولكن بالمقابل أتقن مبدأ التجاهل"، وهذا ما يجعلنا بعيدين كل البعد عن محاسبة الناس على كل شيء أو رد الإساءة بالإساءة، وليعلم الآخرون بأن رفعة النفس وعلوها يتمثل في أولئك الذين يديرون ظهورهم عن أصحاب النفوس الحاقدة التي أزهقت نفسها في تتبع الزلات كونها تتصيد في الماء العكر حتى تقدم نفسها بأنها بريئة كبراءة الذئب من دم يوسف، وما هي إلا أجساد تحاول التقليل من مكانة الآخر، بشتى الطرق والأساليب، فكلما تجاهلناها زادت حماقاتها وتشرذمت توجهاتها، "فما دواء الجاهل إلا التجاهل".

لقد عد الكثيرون من الفلاسفة والمفكرين التجاهل/التغاضي/التغافل من صفات الكرم الإنساني التي تسمو بالشخصية إلى مراتب الصفاء والكمال النفسي؛ حيث عده الحسن البصري بأنه من صفات الكرام، فهو كرم يقدمه الفرد تجاه من يسيء إليه أو ينتهج معه لبس الأقنعة فيبدو بشيء وهو يضمر البغض والحسد له، كما أن الإمام أحمد ربط التغافل بالخلق، فإنك تستطيع أن تكتشف أخلاق الأفراد من درجة إتقانهم فن التجاهل؛ حيث قال: "تسعة أعشار الخلق في التغافل"، وهذا هو ما يقودنا إلى إيجاد مساحة كبيرة من الحرية في إصدار الأحكام على الآخرين، فكلما اتسعت فضاءات التغافل، كلما منحنا نفوسنا راحة في تفكيرها.

التجاهل ليس غباء أو انهزامية كما يظنه أولئك "السيئون"، وإنما ثقة قلما نجدها في عالم اليوم نظرا لضيق مساحة العقول في تفكيرها، وتسلط الآخرين عليها؛ لذلك ظهرت الكثير من المشكلات بين فئات المجتمع، لا سيما تلك البيئات التي يتواجد فيها الشخص لفترة طويله خلال يومه؛ لأنها تنتج وفرة من الأحداث التي تتعد حولها التفاسير والأسباب، وبالتالي تقود الشخص إلى حياة التنغص، المصحوبة بعدم الاستقرار، فتكثر الشكوى وتزداد الخصومات لأتفه الأسباب، وهنا قال الإمام علي كرم الله وجه: "من لم يتغافل تنغصت حياته"؛ لذلك ومن مبدأ إيجاد اتزان في رغبة النفس وحساسيتها، فإنَّ الحاجة ماسة في تطبيق هذا الفن، حتى تبعد شبح الهموم عنك لتنتبه لأهم الأشياء التي من أجلها أنت خُلقت، وهذا يقودنا إلى "أيقونة الحذر" التي من المهم أن يحيط الإنسان به ذاته؛ فالشبهات محيطة بنا ومتشابكة مع بعضها؛ لدرجة أنها تصل إلى عدم التفريق بين الحلال والحرام، فتنغمس الأرواح فيها بحسب "الظن" فقط، او لأنها تقترب من مصالحه الذاتية.

هناك من يعتبر التجاهل استحقارا للناس، وحتى لا نقع في شرك الاستحقار علينا أن نفرق بين التجاهل لغرض الاستحقار، والتجاهل بغرض كظم الغيظ؛ فالكاظمون الغيظ ربطهم الله سبحانه بالعفو، حيث قال تعالى: "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" (آل عمران:134)؛ أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمَّن أساء إليهم؛ فالتجاهل الذي أتحدث عنه هنا هو بهدف تجاوز محنة أو حل مشكلة، وليس بقصد إيذاء الآخرين أو ازدرائهم، مهما كانت أساليبهم وتعاملهم الإنساني، وهذه دعوة إلى عدم الغضب، لأنه يهدم الخلق، والحلم.

-------------------------------

همسة:

يقول الدكتور طارق الحبيب في مقال له بعنوان "تعلمَّوا فن التجاهل": "إنَّ التجاهل إذا جاء من نفس راقية ونفس واثقة مطمئنة وكان مصدره القناعة، فإنه يدعو إلى التقارب بين الناس ويزيل الكثير من الخلافات بينهم، وقل من يتقن هذا الفن". أما أنا فأقول "لكم": تجاهُلِي ليس انهزامًا ولا غباء.. وإنما رُقي بذاتي وفهم لقدراتي التي تزيِّن وجودي؛ فهو تجاهل وليس جهلًا بما يدور حولي.

abuzaidi2007@hotmail.com