مدلولات وقراءات في ردود الفعل الأمريكية على انفجار منهاتن

 

عبيدلي العبيدلي

أهم مفاجأة حملها الانفجار الذي هزَّ حياً بمانهاتن في مدينة نيويورك صباح يوم الأحد الموافق 18 سبتمبر 2016، هو عدم مسارعة الجميع، من أجهزة إعلام، ومسؤولين غربيين إلى توجيه أصابع الاتهام نحو "الإرهاب"، وهو أمر تعودنا عليه على امتداد السنوات الخمس الماضية في أقصر تقدير. فمن حادثة برجي نيويورك في العام 2001، حتى تفجيرات فرنسا خلال العام 2016، لم تتوقف آلة الإعلام الغربية عن إلصاق تهمة "الإرهاب الدولي" بأيّ عمل عدواني تعرفه مدن الغرب. وتحت بطانية "الدولي"، هناك توجيهات مقصودة نحو "العربي".

حتى الدوائر المسؤولة في الولايات المتحدة كانت حذرة في إشاراتها نحو الجهات المسؤولة.  فمن جانبه عقد عمدة نيويورك، بيل دو بلاسيو، بوصف كونه الجهة الرسمية الأكثر قرباً من المسؤولية، مؤتمرا صحفيا قال فيه "إن الانفجار على ما يبدو متعمدا. لكنه أكد على عدم وجود ما يدل على صلة الهجوم بالإرهاب، وأنه من المبكر تحديد ما إذا كانت قنبلة تسببت بالانفجار. وأدى الانفجار الذي هز في حي تشلسي بمانهاتن في نيويورك إلى إصابة 29 شخصا على الأقل.

من جانب آخر قال المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية، دونالد ترامب، "إن الانفجار الذي هزّ حي بمانهاتن في مدينة نيويورك ناجم عن قنبلة، وذلك قبل أن يصدر أي تأكيد رسمي عن السلطات." لم ترد كلمة إرهاب في تصريحات ترامب.

 أما المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، فلم يأت على لسانها كلمة إرهاب، واكتفت بالإشارة إلى "أنها تلقت إيجازا حول الانفجار".

بخلاف هذه التصريحات، لم تنقل وكالات الإعلام أية تصريحات أخرى على لسان مسؤولين في دول أوروبية تشاطر الولايات المتحدة "أحزانها" جراء الهجمات الإرهابية. وكان الأمر كذلك بالنسبة للدول العربية. فهي الأخرى لزمت الصمت، واكتفت وسائل إعلامها بنقل الخبر دونما تعليق أو إضافة. 

"الحيادية" ذاتها صبغت مواد وسائل التواصل الاجتماعي التي اكتفت بنقل الخبر وتصوير مشاهده، دونما إشارة من هنا أو هناك نحو "الإرهاب الدولي".

تحمل ردود الفعل هذه مجموعة من الدلائل ترافقها مجموعة أخرى من القراءات التي تلقي المزيد من الأضواء على ذلك الانفجار يمكن سردها في النقاط التالية:

  1. صغر حجم الدمار الذي خلفه الانفجار في الأرواح والأموال. فعدد الضحايا لم يتجاوز الثلاثين، بينهم حالة خطيرة واحدة، ولم يكن هناك ما يمكن ذكره على صعيد الخسائر في الأموال. يتضاءل هذا الحجم أمام انفجارات أخرى متتالية عرفتها مدن أوروبية خلال العامين 2015 – 2016، وكان ضحيتها العشرات من القتلى.
  2. ترافق الانفجار مع الهجوم الجوي الذي شنته خمس طائرات أمريكية على قاعدة عسكرية سورية ذهب ضحيته العشرات من الجنود. الأسوأ من ذلك، وعند ربط الإرهاب بما يعرف باسم "تنظيم الدولة الإسلامية"، هو تمهيد الطريق أمام عناصر ذلك التنظيم كي تستولي على معدات وأسلحة كانت في مخازن تلك القاعدة، من بينها، كما أشيع، مخزون من غاز الخردل السام. ومن ثم فمن غير المستبعد أن تتحاشى واشنطن الربط بين انفجار منهاتن والإرهاب الدولي، كي لا تتهم بتعاونها المبطن مع "داعش"، ومن ثم تفقد المؤسسة الحاكمة الأمريكية هيبتها لأنها ستجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما أنها تتعاون مع داعش، ومن ثم فمن غير المنطقي أن يتصارع الحليفان، أو أنها تلقي التهم جزافا، ومن ثم يكشف ذلك ضعف أجهزتها الأمنية والاستخباراتية.
  3. هشاشة التماسك المجتمعي الذي باتت تُعاني منه الدولة الأمريكية، وهو محصلة تراكمات متتالية لأزمات خانقة عرفتها الولايات المتحدة خلال السنوات العشر الماضية، ليست الاقتصادية سوى الأبرز بينها. فبالإضافة إلى أزمة الديون العقارية التي هزت أركان الاقتصاد الأمريكي من الداخل، هناك فشل مشروعاتها السياسية الخارجية في العالم، يدلل عليها تراجعها أمام كوبا وقبولها بإعادة العلاقات مع هافانا، وتلكؤ برامجها في الشرق الأوسط. وفوق هذا وذلك، عجز حليفها الاستراتيجي الكيان الصهيوني في وضع حد لتنامي عمليات المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة. ومن ثم فمن غير المستبعد ان يكون من وراء الانفجار جهة لم يعج لها مكان في المجتمع الأمريكي، او أنه صراع مراكز قوى داخل ذلك المجتمع الذي يقف على أهبة الاستعداد لخوض انتخابات رئاسية.

كل هذه الدلائل تفتح الطريق أمام مشروع عربي دولي ناضج وقابل للتسويق دوليا يقوم على الركائز التالية:

  • مسح الصورة البشعة التي رسمتها، بوعي، وسائل الإعلام الغربية، وفي مقدمتها الأمريكية، للعرب، والتي ربطت بين الإرهاب وبين العرب. هذا المسح ينبغي أن يكون جذريا وشاملا بحيث يعيد الأمور إلى نصابها، ويحمل كل طرف مارس دورا في تنمية ظاهرة الإرهاب مسؤوليته.  وربما سيكتشف الغرب حينها أن من زرع بذرة الإرهاب لم يكن أحدا سوى واشنطن ذاتها التي رعت تنظيم "القاعدة"، عندما كان يخدم استراتيجيتها المواجهة للوجود الاستعماري السوفياتي في أفغانستان.
  • طرح مشروع عربي دولي متكامل يقوم على القبول بالآخر، والرغبة الصادقة في الانخراط في المجتمع الدولي المعاصر من منطلق حضاري متقدم غير منغلق على الذات. ليس هذا بالأمر السهل كما قد يتبادر للوهلة الأولى، فهو يتطلب انقلابا نوعيا جذريا على الذات العربية الغاية في الأنانية والمغرقة في "الأنا". هذا الانقلاب لا يقتصر على مجال دون آخر، فهو شمولي يبدأ بالاقتصاد، ويعرج على السياسة قبل أن يحط رحاله عند القضايا الحضارية، والخلفيات العقيدية.

في ضوء تلك القراءات، ومن خلال فهم تلك الدلائل، وفي غضون الاستعداد لهذا الشروع العربي، لا يملك العرب سوى تلقي الاتهامات، والاستمرار في محاولات يائسة للدفاع عن أنفسهم أمام الرأي العام الدولي المعادي لهم.