الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية (2)

 

معلم الأزهر عبد الله

نستكمل اليوم الحديث عن الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية، ونطرح التساؤل التالي: هل أجور هيئات الرقابة الشرعية ثمن لفتاويها؟.

ينظر البعض إلى أن هيئات الرقابة الشرعية تتقاضى أجورها من البنوك الإسلامية، ويتخيل من ثم بأنّ فتاويها تتأثر بهذه الأجور ـ سلباً وإيجاباً! فهل هذا الافتراض صحيح؟ لو افترضنا جدلاً بأن دور هذه الهيئات في هذه المؤسسات هو مجرد الإفتاء، فهل الأجور التي تتقاضاها من هذه المؤسسات هي حقاً ثمن لفتاويها؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فتلك مصيبة؛ لأنّ هذا يعني أن كل من يقوم بالإفتاء أو تقديم الرأي أو إعطاء المشورة أو حتى التدريس مُقابل أجر في أي مكان في العالم، فإنّه يبيع فتواه أو رأيه أو مشورته أو علمه إلى الجهة التي تدفع له الأجر. وحينئذ، فالمشكلة لن تنحصر في هيئات الرقابة الشرعية لدى البنوك الإسلامية، بل ستنطبق أيضًا على: المفتين، القضاة، مدققي الشركات، المستشارين، والمدرسين ... إلخ؛ لأن كل هؤلاء يتلقون أجورهم ـ بطريقة أو بأخرى ـ من الجهة التي يقدمون لها خدمتهم! فالمفتون ورجال القضاء يتلقونها من الدولة، والمدققون يتلقونها من الشركات، والمستشارون يتلقونها ممن يستشيرهم، والمدرسون من المدارس / الدولة.

لكن الإنسان المنصف عقلاً والسليم قلباً لا يتَّهم مثل هؤلاء النبلاء بمثل هذا الهراء؛ فهؤلاء الأشخاص جميعًا يتم تعيينهم بعد فحصهم والتأكد من كفاءتهم ونزاهتهم. واتهامهم بهذه التهم الواهية يُعرض المجتمع لمصيبة كبيرة تتمثل في زعزعة ثقة الناس بهم وانكماش المؤهلين عن القيام بمثل هذه المهن المهمة هروباً من إلصاق التهم بهم. ولا يخفى على أحد مدى الأضرار التي قد تلحق بالناس لو خلت المجتمعات من القضاة، والمدققين، والمفتين، والمدرسين والمستشارين وأمثالهم. وعليه فلا يجوز اتهام هؤلاء الأفاضل ـ صراحة أو إيعازا ـ بأنهم يرتشون أو يبيعون دينهم وآراءهم وعلمهم وضمائرهم مقابل الأجر الذي يحصلون عليه. فكفاءتهم العلمية وأمانتهم تقتضيان أنهم على العموم لا ينزلون إلى مستوى بياع فتاوى أو أحكام أو آراء أو علم؛ وصفة المهنية عندهم تضمن أنّ الحد الأدنى للأمانة المطلوبة يتحقق؛ ثم إيمانهم بالله يوحي بأنّهم سيُراقبون الله في أعمالهم ـ خاصة من كانوا من العلماء المعتبرين والمشهود لهم بالعلم والأمانة. وحتى لو قاموا بالخيانة متسترين ـ لا قدر الله ـ فإننا باتهامهم دون دليل واضح أو برهان قاطع لسنا بأفضل منهم في الالتزام بأحكام الشرع!!.

والسؤال هنا: هل فتاوى هيئات الرقابة الشرعية قرارات؟

وللإجابة على ذلك لابد من الإيضاح بأنّ فتاوى هذه الهيئات ليست فتاوى بالمعنى المتبادر إلى الذهن ـ آراء شرعية لتعمل بها البنوك الإسلامية إن شاءت؛ بل هي قرارات ملزمة لهذه البنوك بقوة القانون؛ وعليه، فليس من المنطق أن هؤلاء العلماء يعمدون إلى هذه البنوك ليلزموها من خلال فتاويهم الملزمة بالقيام بما هو مخالف للشرع! كما لابد من الإيضاح بأنّ فتاوى هذه الهيئات لا يلزم أن تحرم المعاملات كي تعتبر صحيحة. أي أنّه من الخطأ اعتقاد أن الفتوى تكون صحيحة فقط إذا جاءت خلافًا لما يريده البنك؛ أما إذا جاءت بالجواز ووفق ما يسعى له البنك، فإنّها بالضرورة غير صحيحة، بل متأثرة! ذلك لأنّه ليس كل ما يُريده البنك الإسلامي مخالف للشرع، بل معظمه موافق له في الجملة ـ كما لو أراد البنك الإسلامي شراء سيارة أو عقار، أو الاستثمار في مشروع حلال في الأصل، فالفتوى بالجواز هنا لا تعني أن الهيئة تأثرت بالأجر، بل بأصل الحكم الشرعي الذي هو الجواز. كما أنّ كثيرا من المعاملات المحرمة، قد لا يكون سبب تحريمها ذاتياً (محرم لذاته ـ كالخمور والخنزير)، بل لعلة ثانوية كالوسيلة أو الإجراء إليها (محرم لغيره. "فهو في نفسه مباح، كالنقود مثلاً، ولكن حرم لخلل في اكتسابه" (الشبكة الفقهية ـ الملتقى الفقهي، Feqhweb.com) كإقراض شخص مقابل ربا). فالمحرم لذاته ترفضه جميع هيئات الرقابة الشرعية جملة وتفصيلاً؛ أما المحرم لغيره، وهو الأغلب في معاملات المجتمعات الإسلامية، فتعمل هذه الهيئات على إيجاد البديل الشرعي المناسب ـ ما أمكن.

تعليق عبر الفيس بوك