الفوبيا

الشعور بالخوف هي حالةٌ تعتري الإنسان/ الفرد في أيّ مُجتمع من المجتمعات نتيجة ظروف وأحداث مبنية على متطلبات المعيشة، فيتزايد كلما ضاقت مجالات التفكير من خلال تأطير آيدلوجي مرسوم من قبل فئة عامة أو توجهات أنظمة عبر قوى مالية/ اقتصادية أو سياسية أو سطوة اجتماعية كالتي في المجتمعات المتأخرة/ المتخلفة، التي تعتمد على توريث السيطرة في كافة نطاقاتها من أجل المحافظة على كياناتها ورسم مسار واحد لكل الأفراد، لذلك تتزايد حدة "الفوبيا" لديهم وتتقلص مدارات أفكارهم لتنحصر في تأمين معيشة يومية مصدرها ما يتناثر من فضلات الفئات المسيطرة في المجتمع وبحسب نظرة القطب الواحد، من هنا تنشأ المجتمعات "البوليسية" التي تراقب وتترصد كل فرد حتى لا ينحرف فكره ليمارس أدنى حقوقه الكونية/ الوضعية، وبالتالي تقوم الفئة المُتسيّدة بمقايضة ذلك الخوف بالأمان الاجتماعي والعزف على أوتار الوطنية وعدم شق صف الجماعة كونها ترى بأنّ تكوينات المجتمع ما هم إلا أدوات تستخدم في بلوغ المصلحة الخاصة المغلفة بالمصلحة العامة.

تُمثل غريزة البقاء لدى الإنسان أهم غريزة إنسانية، وعندما يفكر الإنسان فيها يصل إلى مرحلة الاضطراب النفسي وتولّد لديه الشعور بالخوف ليكون ملازمًا له، من هنا يبدأ البحث عن أبسط الحلول التي تمكّنه من البقاء وممارسة حياته دون تفعيل أو اختيار، فيركن إلى المسلمات وما يأمره به من يمتلك قوة المال والمنصب، وعلى الرغم من ذلك الحياد الذي يُبقيه في اتجاه واحد يتنامى الخوف لديه من أن يحيد قيد أُنملة عما يريده الطرف الآخر منه، من هنا تُصاب العقول بالجمود والإنزواء، لتختفي المشاركة الاجتماعية المبنية على تعدد الآراء، وإن ظهرت تظهر على شكل نص مسرحي مبرمج دون السماح للممثل بالخروج عن النص، فهو قيد يتقيد به حتى يوهم غرائزه بأنّ هناك مشاركة أو ما يسمى في المجتمعات المتحضرة "بالديمقراطية"، لذلك فالحديث عن حُرية التعبير أو ما يقع في نطاقها أمر يزيد تدفق "الأدرنالين" المفضي إلى الشعور بالخوف من المجهول الذي يترصده، وبالتالي يتمدد هذا الشعور ليصل إلى محيطه الذي يعيش فيه، ليصبح المجهول "فزّاعة" لمن يتجرأ على الحديث أو تغيير في سلوك أو تبني توجه مُعين للتخلص من عقدة الخوف.

عندما يُسيطر الخوف على الفرد يتعقد الفكر ويبدأ القلق والمرض بالهجوم على الإنسان، فتتحول الطاقات الإيجابية إلى سلبية مشكّلة أمراض عضوية في جسم الإنسان، ليبدأ مرحلة أخرى في كيفية الحصول على الدواء، لأنّ الهم الوحيد له هو الاستشفاء من جملة  الأمراض التي أحاطت به، هنا ينحصر الفكر في قالب واحد، لتظهر بشكل مباشر القوى الأخرى في إيجاد الحلول له عبر حزمة من الخدمات التي تمكّنه من التغلب على مرضه الذي حلّ به نتيجة ما قامت به تلك الفئة من تأطير وتقطيع، هنا يرى تلك الخدمات بأنها من العلامات الفارقة والتي جاءت منقذة لوضعه الذي أودى به إلى الهلاك، ليتحول بعدها إلى التفكير في "الكم" الهائل من الخدمات التي يجب أن يستشعرها ويزرعها في البيئة المحيطة، فهي إذاً ممارسة سلوكية تقود الفرد إلى الإيمان بأن وجوده ليس أساسيًا وإنما مكمل لما يريده الآخر من أجل الحفاظ على كيانه، لكنه في شعوره الخارجي لا يستطيع أن يبدي ما تخفيه نفسه، فيكون بوقاً متقطعاً خوفاً أن يعود إلى مرحلة التخلف.

تتعدد وسائل زرع الخوف في المجتمعات، حيث ساهمت وسائل الإعلام بمجملها في زرع الخوف لدى الفرد، وذلك عبر ما تبثه من أفكار وأحداث مُعتمدة على تضخيم ما تريد تضخيمه وتحجيم ما تُريد تحجيمه، فهي وسائل مسيطرة وموجهة في ذات الوقت لقبول الأفكار التي تنشأ في بيئة القوة لتمرر وتزرع في بيئة ضعيفة مذبذبة في رغباتها التي تتأرجح بين الحاجيات والكماليات، لتصبح منقادة طوعًا وكرهاً لقبول تلك الأفكار، والإيمان بها حتى تتوسع دائرتها، ليصبح الفرد مهمشاً ومهشمًا فكرياً، فلا يعي أو يُدرك رغباته، ولا يستطيع أن يصنّف نفسه في أيّ اتجاه يسير، ولعل  معزوفة الاستقرار التي فقدتها الكثير من الشعوب هي الحاجة السائدة في مجتمعات يمارس الأقوياء فيها حرياتهم المطلقة بينما الضعفاء يعيشون بين منافي الخوف ووحوش الاضطرابات النفسية.

إنّ الحصول على قوت يوم أو شهر أصبح فوبيا تُحيط بالفرد وتستولي على حياته اليومية، فليس من السهل تأمين ما يحتاجه إذا لم يستشعر الخوف ويتمكّن منه، لذلك تكون أولويات المعيشة هي الأهم في وجوده الاجتماعي (المأكل، والمأوى)، وهنا يكون كيانه مسيطراً عليه لا قوة له، فهو إرادة الغير عليه.

الإنسان منذ بداية تكوينه مارس عليه والداه فلسفة الخوف لتكون لديه سلوكاً، فالآباء ينقلون تجربتهم الطفولية لتكون تطبيقاً عملياً في أطفالهم، فالغالبية منهم ينشئون أبناءهم على فعل الخوف والزجر، وهي ممارسة مستمرة في الكثير من الأجيال، فتكبر هذه الآفة لديهم، أما على الصعيد المهني/ الوظيفي فتتعد طرق التخويف في البيئة العملية، وذلك حرصًا على هيبة المؤسسة ومن يتحكّم فيها، فالمسؤول الكبير يُمارس فعل الخوف على الموظفين بمختلف درجاتهم، مثلا: الوزير يُمارس سلوك التخويف على الوكيل، وبدوره ينقله إلى المدير العام، وهذا يسلطه على المدير، والمدير يتفنن فيه ويسنه على رئيس القسم، وهكذا تسير العملية، حيث يجد الإنسان أنّه محاط بجملة من مشاعر الخوف والقلق، فلا ترقية إلا بعد الخوف، ولا تقدم وظيفي إلا بعد استشعار هيبة المسؤول وتطبيق كل فروض الطاعة له، إذاً الخوف سلوك ينتشر بانتشار الرغبة في تمرير الأجندة الخاصة على العامة.التخلص من الخوف يحتاج إلى اعتراف من الشخص نفسه بحجم الخوف الذي يحدق به إلى جانب وضوح الأسباب والمُسببات، كما أنّه من الضرورة وجود طاقة إيجابية لدى الفرد برغبته للتخلص من الخوف بالاعتماد على قواه العقلية والبدنية، ولعل تجربة الخوض في مبادئ الحقوق إحدى الطرق التي يستطيع من خلالها الكيان البشري التخلص من هذه العقدة وتحقيق عنصر أو قيمة التمكين لذاته، مهما كانت الصعوبات التي ستعترض طريقه.

يقول الكثيرون بأن الخوف حافز مهم لتحقيق الأهداف وبلوغ الأماني، ويقول آخرون بأنّه أي الخوف سلوك يزعزع ثقة الفرد ويكون بعدها آلة توجه حسب القوى المحيطة به.

همسة:

أشعُرُ بالخوف من المجهولِ.. فآويني.. أشعرُ بالخوفِ من الظلماء فضُميني.. أشعرُ بالبردِ فغطيني.. احكي لي قصصاً للأطفال وظلّي قربي غنِّيني.. فأنا من بدءِ التكوينِ أبحثُ عن وطنٍ لجبيني.. (نزار قباني).

هلال بن سالم الزيدي

كاتبٌ وإعلامي

[email protected]