"أهم شي النية..."

 

 

عمَّار الغزالي

 

"أهم شي النية".. عبارة يتداولها الشباب كثيرًا، أحيانا على سبيل المزاح أو الاعتذارعن عدم المقدرة على فعل شيء، وأحيانا تبريراً للتقصير عن أداء واجب. وأصابَ شبابنا حين تبنُّوا هذا الشعار؛ فالنية عظيمة لو عُرِف قدرها، وسلاحٌ معنوي بالغ التأثير لو تمَّ استغلالها.

والملاحَظ أنَّ مُعظَم العلاجات النفسية والتوجيه المعنوي والبرمجة اللغوية العصبية حتى جلسات التأمل واليوجا والاستشفاء الذاتي قائمة على شحذ الذات وإصلاح النية والتفاؤل وحسن الظن بالله وبالناس. والحديث النبوي المعروف يختزل هذا، فيقول: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى".

لاحظ أيضاً عزيزي القارئ كيف أنَّ الدين الإسلامي شريعة عظيمة تركز على المقاصد والدوافع؛ شعارها التيسير والتسهيل؛ فبعد الحد الأدنى من الفرائض يُشرَع للمسلم أن يأتي بالأعمال التعبدية بكلِّ يُسر وقدر الاستطاعة من غير تكلُّف ولا إجهاد. ولكنَّ الشريعة الغراء تُشدِّد كثيرا على النية والعبادات القلبية لأهميتها، ولتأكيد أنَّ الإنسان يستطيع أن يتحكم بزمام نفسه فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها؛ فلو كُنَّا لا نستطيعها لما كلفنا الله تعالى بأن نملك زمام أنفسنا، وهي أضعف الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". فنفى الإيمان عَمَّن لا يكترث ويتجاهل هذه العباده القلبية ولا يهتم بشؤون المجتمع؛ كما نفى الإيمان عَمَّن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، لا إيمان لمن يحب الخير لنفسه ولا يحبه للآخرين؛ فهذا الدين دين محبة وعطاء وشعور وأحاسيس.

ومن نافلة القول أنَّنا نتكلم عن النية الصادقة، النية بغرض العمل والمفضية إلى الإنجاز والعطاء 

وليس النية الكاذبة -إنْ صحَّ التعبير- والتي تكون بغرض التكاسل واستجلاب الأعذار الواهية.. والنية الصادقة لا يمكن أن تتناقض مع العمل بل هي مُكمِّلة له. أما النية الكاذبة فهي خداع للنفس ومراوغه واتباع للهوى، لكن هيهات فما "يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون".

ولقد جاء في الأثر "نية المؤمن خير من عمله". وبالرغم من اختلاف المحققين والمحدثين في درجة صحة الحديث -واختلاف العلماء رحمة للأمة، وتنوع وثراء للتراث الإسلامي الزاخر- إلا أنَّه -وعلى كل حال- هناك مجموعة من المعاني الجميلة في هذا الأثر، تتسق مع السياق القرآني والأحاديث النبوية ومقاصد الشريعة الغراء التي تعظم من شأن النية. ومن هذه المعاني أنَّ شأن المؤمن ونيته وهمته خير من عمله دائما؛ فطموحه الارتقاء بنفسه وربه، وشأن الطموحين دائما أنَّ همتهم أفضل من أعمالهم؛ فمهما كانت أعمالهم سامية فنياتهم أسمى ولو لم يستطيعوا تحقيقها، وصدق الشاعر حين قال:

إذا كانت النفوس كباراً.. تعبت في مرادها الأجساد

وأيضاً تتفوَّق النية على العمل إذا كانت أعظم منه؛ فكم من نية صالحة كبَّرت عملا صغيرا، وكم من نيةٍ طالحة صغَّرت عملاً ظاهرهُ كان كبيرا.

كما أن النية الطيبة الصادقة يؤجر صاحبها وإن لم يعمل بعملها، أما العمل بلا نية أو قصد فلا اعتبار له، لقد حصر الحديث الشريف حجم العمل ووزنه عند الله تعالى بماهية نيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى".

وقد تتساوى الكثير من الأعمال في ظاهرها، ولكنها تختلف كثيرا في نتائجها، وهذا ما ثبت علميًّا عن طريق الكثير من الدراسات؛ فالموظف الذي يحافظ على ساعات الداوم خوفاً فقط من المساءلة القانونية، يختلف تماما عن الذي يحافظ على ساعات الدوام حباً لعمله ولوطنه وإحساسا بالمسؤوليه تجاه مؤسسته، لا يستويان لا إنجازاً ولا عطاءً.

اختصرتُ المقال بقدر الأمكان، لأتركك عزيزي القارئ مع فرصة التأمل في النية والتوازن الداخلي، وكم هو مُؤثر في حياتنا.. إنَّها عبادة عظيمة ترفع لأعلى الدرجات، وطاقة متجددة تشحن النفس. النية الطيبة وصفاء السريرة يجعلان الإنسان يعيش في سلامٍ داخلي لتفيضَ منهُ ينابيع الحكمة والمحبة والعطاء.

ولقد نشرت هذا المقال في "الرُّؤية"، وهي صحيفة شاملة مُنوَّعة، ولم أنشره في مجلة دينية أو إسلامية؛ لأنَّ مُعظم طرحنا للنية والأعمال القلبية من منظور ديني بحت، بَيْد أنَّ أبعادَ النية أبعد من ذلك بكثير؛ فالنية والأعمال القلبية وترويض النفس محرِّك رئيسي في البناء والتقدم والنجاح والسعادة والإصلاح على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسرة والمجتمع، إنه منهج حياة أوجزه النبي الأعظم والمعلم الأول -صلى الله عليه وسلم- بأن جعله ذروة سنام الإسلام؛ فقد قال لأصحابه عندما رجعوا من إحدى الغزوات: "عُدتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".